الذي يجري هو الانحدار من المبادئ الدستورية والقيم السياسية التي تأسس عليها العراق بعد سنة 2003، انفكاك عقد حبال التحالفات والتفاهمات التاريخية والتعامل معها من منطلق السيطرة والنفعية المطلقة بعيداً عن دروس التاريخ وتجنب تكرارها.
الذي يجري هو خروج التحالف الستراتيجي الكوردي - الشيعي عن مساره المتوقع إلى نوع آخر من العمل السياسي المختلف كلياً عن مرحلة التأسيس.
الذي يجري هو وقوع الجانب الكوردي في حفرة من المشاكل الداخلية وأقوى منها مع الحكومة الاتحادية التي تسير باتجاه أحادي مركزي وِفق المراقبين من الداخل والخارج، من المراقب المحلي والعربي والأجنبي.
الذي يجري هو انفراد عقول قانونية وقضائية بالتحكم في الدستور وبالدستور والبوح بما في باطن القلب من هدم النظام الفدرالي أو وقفه وسدّ الطرق أمام توسيعه على مستوى البلد.
الذي يجري هو أن يعطي رئيس القضاء الحق لنفسه بإيقاف العمل بباب كامل من الدستور المنظم لتأسيس الأقاليم - الباب الخامس.
الذي يجري هو أن الشركاء أصبحوا فرقاء، والفرقاء أضحوا غرماء، الغرماء بدأوا بالكيد لبعضهم، والتوجس من البعض الآخر.
الذي يجري هو أنّ التأجيل والترحيل للملفات العالقة بدأ يعطي النتائج السلبية على مجمل أوضاع البلد، ربما هو مفاجأة للبعض، لكنه نتيجة منتظرة مرغوبة بها تأتي حسب الخُطة المرسومة للبعض الآخر.
الذي يجري هو عدم تنفيذ الاتفاقيات.
في بداية العمل على بناء العراق الجديد، وعند مقاطعة أهل السنة العرب العملية السياسية ومتطلباتها، قال الزعيم الكوردي مسعود البارزاني إن "الإخوة من العرب السنة أخطأوا خطأ ستراتيجياً"، لكن ها هو الآن الأمارات تضع في ذهن وخيال المراقب أنه يريد فعل ما قد نهى عنه.
إنّ بيان الحزب الديمقراطي بعدم المشاركة في الإنتخابات في حال كهذه وظرف متحكم به من خارج إقليم كوردستان، ليس مقاطعة للعملية السياسية، ولا هو رفض المشاركة في الانتخابات، فالأمر هنا مختلف عن موقف أهل السنة وحتى الصدريين، وإنما يريد ترتيب الأوضاع أو إزالة الهواجس والشعور بالخطر، القرار مبني على معرفة البارتي (كما يقولون) بأن مؤامرة منتهية من رسم ملامحها حيكت ضده، والغاية هي إخراجه من السلطة والحكم وقلب الوضع الحالي في الإقليم ومن ثم سحب خيوط الورقة الكوردية من يديه في بغداد بالتتبع، وحصر سلطاته متواضعة في محافطة دهوك، هذا وإن كان رغبة القوى الحاكمة في بغداد الآن، لكنه جزء من مخطط إقليمي لتوسيع دائرة النفوذ من جغرافية السليمانية باتجاه أربيل، ومن هنا الربط بين تللعفر واربيل والسليمانية.
مصادر مطلعة تقول إن مخططاً بحدوث عملية تزوير بالضدّ من الديمقراطي الكوردستاني ينفّذ، لكن حتى لو صحَّ ما يظنون فإن الديمقراطي لا يمكنه التصرف الإنفرادي دون التشاور مع الحلفاء غير العراقيين أولاً وفي المقدمة الأميركيين والأتراك، لو فعل بمعنى تجاهَل رؤيتهم للأوضاع فإنه مخطئ، وقد يشكل شطب كوتا الأقليات الدينية في الانتخابات باباً يأتي منه الفَرَج بما تشكله من حساسية للغرب، خاصة ان كوتا الأديان في برلمان كوردستان كان بطلب ورغبة أوروبية.
ما ينبغي أن يجري هو: كما أن هذا الموقف ودقة المرحلة الزمنية تجعل من البيان الصادر مدخلاً للحوار والنقاش مع الحاكمين في بغداد، ويأخذ الحوار مجالات تسببت في شرخ العلاقات وانعدام الوئام السياسي، منها:
- تصرفات المحكمة الاتحادية وسلوكياتها، وممارستها للسياسية في وجهها السافر، تحت عنوان الحفاظ على المصلحة العامة والإستقرار.
- الضرورة القصوى التي لا يمكن غض الطرف عنها وهي سنّ القانون الناظم لتشكيل وعمل المحكمة الأتحادية حسب المادة 92 من الدستور.
- حق الشعب الكوردي في ثروات البلد بالكيفية التي تتضمنها الموازنة السنوية.
- مسألة حصة "كوتا" الأقليات الدينية بما ينسجم مع الدستور والقانون الانتخابي الإتحادي النافذ.
- سنّ قانون توزيع الثروات كما تقضي المواد الدستورية المتعلقة في دولة فدرالية، ويأتي في المقدمة قانون النفط والغاز.
- هناك مسألة البرنامج الحكومي، البرنامج الذي على أساسه حاز محمد شياع السوداني على ثقة مجلس النواب، في هذا البرنامح بنود مؤقتة - مثل حلّ المشاكل العالقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية حسب الدستور في غضون سنة واحدة - ولها زمن محدّد من أجل التنفيذ، والرجل قرأ البرنامج بصوته تحت قبة البرلمان، فيه ما هو متعلق بالشعب الكوردي والمشاركين في إدارة الدولة ومنها بنود تتعلق بأمور البلاد كلها.
هذه البنود تجاوزت الفترة الزمنية المخصصة لها ولم ينفذ منها شيء، فبعدم التنفيذ وتجاهل التنفيذ والتغافل عن أنها تجاوزت الموعد المحدد بناء على وقد مقطوع وإمضاء مسؤول أصبح جزء من البرنامج الحكومي منتهية الصلاحية، وما هو أخطر من ذلك إنّ هذه البنود التي سجلت وأدرِجت في البرنامج الحكومي جاءت من رحم الأحداث والمشاكل التي تلفُّ البلد، عدم حلّها لا يعني نهايتها، وإنما عودتها في شكل أزمات متجددة، وهذا ما يحدث الآن. فمن حق جميع مكونات تحالف إدارة الدولة مساءلة السيد رئيس الوزراء عن مدى التزامه بالبرنامج الحكومي، وإستدعائه الى البرلمان لهذا الغرض، والطرف الكوردي هو أول من يتوجب عليه فعل ذلك.
- الظلم الذي يصيب السكان الكورد والتركمان دون توقف في محافظة كركوك.
إن الأميركيين لا يريدون الدخول في مواجهة الحكومة العراقية، فالوضع في الشرق الأوسط لا يتحمل، لكنهم في الوقت ذاته لا يريدون إضعاف حلفائهم ولا يتقبلونه، وإذا كانوا لا يرون في مقاطعة الانتخابات مصلحة فكذلك لا يرون في الاتجاه الذي يسير فيه العراق مصلحة كذلك، ربما للمرة الأولى نهاية النفق قابلة للرؤية في حال إستمرار الأمور بهذا الشكل ولم يوضع حدّ لمسار المحكمة وحلفائها الروحيين ممن يعملون ليل نهار على تأسيس دولة عميقة تقص أجنحة من يرفض أن يكون لبنة من لبناتها، وأن تكون لبنة من لبناتها معناه أن تقبل بالقواعد التي توضع لك وليس التي تريد أن تضعها أنت.
ويبقى البند الأهم في هذه التحركات هو التوافق الداخلي الكوردي حيث فتح غيابه فجوات التسلل والتسوس، وقرارات المحكمة الإتحادية وسّعت هذه الفجوات.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً