رووداو ديجيتال
أنا من عشاق الازقة القديمة، الملتوية التي تقود السائر فيها الى مفاجآت.. أزقة مرت عليها أزمنة وناس واصوات حتى تغيرت الوان حيطانها الرطبة والتي تشي بتواريخ واحداث متداخلة.
زقاق، او دربونة، اوعكد، عكد النصارى وعكد اليهود وعكد العمار في شارع الرشيد، وكذلك ازقة الشواكة والفضل في بغداد، وايضا يطلق على الزقاق في البصرة تسمية العكد، او (عوجاية) باللهجة الموصلية او المصلاوية، وكولان باللغة الكوردية.. أزقة كنت قد تجولت بها مرارا، ازقة تتداخل مع أخرى، بيوتها متلاصقة ومتجاورة بحميمية ليشعر سكانها بالامان والترابط اجتماعيا.
كنت اتجول في ( سوق شيخ الله) وسط اربيل، والمجاور لقلعة اربيل التاريخية، عندما انتبهت الى زقاق يمضي الى يميني، تفضحه رائحة رطوبة الجدران المبنية منذ عقود موغلة بالزمن.. وصمت مطبق وبقايا بيوت متهالكة وشبابيك خربة وابواب مغلقة بقوة.
ادخل الى الزقاق الذي بالكاد يمر به بعض المارة بلا استغراب وهذا يدل على انهم تعودوا اجتيازه وتألفت اعينهم مع بقايا الدور والوانها، اسال احدهم عن اسم المحلة السكنية او الزقاق الذي نحن فيه، فيجيب بسرعة(خانقاه) ، ويمضي في طريقه.
تغويني مفاجآت أزقة (محلة خانقاه) لاكتشاف تفاصيلها خاصة واني اتجول فيها للمرة الاولى.. هنا شباك ذات زجاج ملون يطل من حاضره على ماض كان مترفا وما زال شاهدا على حياة ازدهرت ذات عصر..و باب هناك لم تعد تُفتح لغياب اهل الدار، وجدار تحمل عبأ سنوات وصمد بوجه الظروف الجغرافية والانواء الجوية لكنه أبى الا ان يبقى في مكانه.. بيوت ذات اساليب معمارية تفضح الهوية المعمارية الكوردية وسط مدينة اربيل العتيقة.
جاءت تسمية المحلة من إحدى الخانقاهات التي بناها السلطان مظفر الدين حيث كان يحب الصدقة وبناء المدارس والبيمارستانات (المستشفيات) ودور ألأيتام والعجزة، ولكن بعد هجمات المحتلين، تدمّرت بعض الأحياء كمحلة خانقاه ومحلة درب المنارة ومحلة العرب التي كانت قريبة.
قبل ان تكون محلة خانقاه، تم بناء جامع وتكية خانقاه، احد اقدم المساجد في العراق عامة واقليم كوردستان خاصة، حسب الخبير الاثاري والتراثي كنعان المفتي، مدير عام آثار اقليم كوردستان السابق، الذي أشار الى ان:" جامع وتكية خانقاه ، يعد من مساجد العراق الأثرية ويعتبر من الجوامع القديمة في محافظة أربيل، ويقع في قلب المدينة وعلى يمينه تشمخ قلعة اربيل ، وتبلغ مساحة الجامع 1218 متر مربع، ويتسع لاكثر من 500 مصل، وأسسه وبناه الشيخ ملا هداية الله الأربيلي بتوجيه وإرشاد من الشيخ خالد النقشبندي في عام 1805، وتوفي بالحضرة القادرية في بغداد".
يوضح المفتي في حديثه لشبكة رووداو الاعلامية، اليوم الاثنين، 18 تشرين الثاني، 2024، بان "كلمة (خانقاه) فارسية محرفة الى لغات اخرى، وهناك من يكتبها (خانقاء) والكلمة الاصلية (خان قاه)، و(خان) مكان المبيت او السكن وهو المباني التي أقيمت لإيواء الصوفية الذين يخلون للعبادة، وهي من احدى اقدم المحلات السكنية في اربيل وتقع ضمن المنطقة المحمية (بفر زوون) من قبل اليونيسكو للحفاظ عليها ضمن برنامج حماية المواقع التراثية وكيفية استغلالها مستقبلا". مضيفا" باشرت حكومة اقليم كوردستان بعد عام 2005 باخلائها وكذلك جزء من محلة العرب لكن الدكاكين التجارية ما تزال ماهولة الى يومنا هذا .. وعدد دورها ما بين 750 الى 1000 دار وفي عهد الدولة العثمانية سميت هذه المباني بـ (التكية (ولذلك سمي الجامع بالتكية الخالدية".
الخبير الآثاري، كنعان المفتي، اضاف" قمنا بتحديد مجموعة من الدور المهيأة مستقبلا لتكون مرافق سياحية اعتمادا على قيمتها من الناحية الآثارية والتراثية وتميز اسلوبها المعماري، وليست مجرد غرفة مبنية من الصفيح او من البلوك حديثا، بل البيوت التي لها مكانة متميزة ، واشرنا هذه البيوت وسلمناها الى المنطقة المحمية الـ (بفرزون) من قبل اليونيسكو، بضمنها (محلة العرب) و(محلة خانقاه) و(محلة تعجيل) والتي تضم اليهود والاسلام". مبينا ان:" عدد البيوت المحمية هي ما بين 100 الى 120 بيت، وبقية البيوت يتم ترميمها ويفضل ان تبقى مسكونة، وسيتم إزالة الغرف او البيوت المبنية من الصفيح والبلوك".
عن قيمة تعويض اصحاب هذه البيوت، قال:" انا كنت عضوا في لجنة التعويضات حيث منحتهم حكومة أقليم كوردستان قطعة ارض سكنية مساحتها 200 متر مربع لكل عائلة ومبلغ 4 الاف دولار، خاصة في قلعة اربيل ومحلة تعجيل، واعتقد تم منح اقل من هذا الملغ لاصحاب بيوت محلة خانقاه". وفيما يتعلق بالمبالغ المخصصة لصيانة المحلة، اوضح المفتي" في الواقع لم تبق مبالغ لصيانة الدور سواء في محلات خانقاه وتعجيل والعرب، بل حتى بيوت القلعة ونحن في انتظار تخصيصات وزارة البلديات والسياحة واليونسكو".
وكشف الخبير الآثاري كنعان المفتي عن ان:"هناك خطط ومخططات موضوعة وجاهزة لتطوير المنطقة لتتحول الى مرافق سياحية مع الحفاظ على تاريخها واسلوبها المعماري، هذه المخططات وضعتها شركات اجنبية وخاصة اللبنانية لخبرتها في هذه الامور".
يذكر انه تم أُعادة بناء جامع التكية الخالدية في عهد متوليه الشيخ محمد صالح النقشبندي في عام 1961، وفق مخطط عمراني يتناسب مع الاسلوب المعماري الاصيل للجامع، كما بنيت قبالة الجامع متنزه عصري باسم (بارك أربيل) ويحتوي على نافورات ماء وحدائق جميلة، مما أعطى لمنظر هذا الجامع جمالية فريدة، كما اقيم باب الجامع والدكاكين الملاصقة له بجدران منقشة من الآجر والطابوق المحلي. وتتوسطهُ قبة كبيرة تقوم على أعمدة كونكريتية من الأسمنت المسلح بالحديد، ويحتوي الجامع على عدة غرف منها غرفة مخصصة لإمام الجامع ولمنتسبيه من الخدم والمؤذنين وغرفة مخزن وغرفة للإدارة وغرفة خاصة للتداوي بالأعشاب والطب الشعبي، ويحتوي المسجد على مكتبة فيها العديد من الكتب الدينية والمخطوطات القديمة باللغات العربية والتركية والفارسية.. وللجامع منارة مئذنة عالية ذات حوضين يبلغ ارتفاعها 27 متر، ويعد المسجد مكانا يرتادهُ العديد من المشايخ وعلماء الدين ووجهاء الناس للسؤال والبحث في أمور الدين والفقه الإسلامي.
يحل المساء على محلة خانقاه، ثمة اضوية باهتة يتسلل ضيائها من خلال كوة في باب عتيق او شباك فقير بزجاجه..التقي برجل يهم لفتح باب بيته، أساله عن تاريخ سكنه لهذا البيت فيؤكد بانه ولد في هذا البيت مع اخوته الذين انتقل بعضهم للسكن في محلات اخرى، مثل طيراوة، لكنه متشبث بالبقاء في بيت العائلة.
يتفرع زقاق ضيق ومغلق من الطرف الآخر، امرأة تجاوزت الستين من عمرها تغسل المجاز الذي يطل على الزقاق، بالرغم من البيوت المقابلة المهدمة والتي تحولت الى شبه مزابل، تفاجأت بوجودي في هذا الزقاق الضيق، أسالها عن تاريخ سكنها لبيتها الصغير، تقول" انا ولدت هنا، بيتنا يتكون من غرفتين، يعيش ابني وزوجته واطفاله الثلاث معي..قالت الحكومة لنا بانهم سوف يعوضوننا عن بيوتنا لنرحل من هذه المحلة التي لم تعد مسكونة تقريبا، ونحن في الانتظار".
ينتهي الزقاق الرئيسي لمحلة خانقاه من الجهة الاخرى والمقابلة لسور القلعة حيث سوق العدد اليدوية والتابع اصلا لمحلة خانقاه، وحيث زحام الناس والسيارات فالحياة تجري بسرعة هناك دون ان ينتبه احد الى سكون الحياة في محلة خانقاه.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً