برز الدبلوماسي الفريق شريف باشا خاندان كأحد أهم الشخصيات القيادية الكوردية مطلع القرن العشرين. عين سفيراً للدولة العثمانية في السويد (1898 -1908)، استقال من منصبه كسفير، ثم توجه إلى باريس ليؤسس حزب معارض باسم: (حزب الإصلاحات الأساسية العثماني). تحول إلى الناطق الرسمي لقوى المعارضة المضادة للاتحاد والترقي خارج البلاد. ونتيجة لمطالبته بحقوق الشعوب المنضوية تحت الحكم العثماني، وتضامنه الخاص مع الأرمن تصادم مع الاتحاديين، وانخرط في الحركة الوطنيية الكوردستانية.
يعد شريف باشا حالة استثنائية بين الزعامات الكوردستانية الريادية. ولد سنة 1865. يرجع في أصله الى مدينة السليمانية، سليل رجالات الأسرة البابانية الشهيرة، الذين حكموا جنوب كوردستان، انطلاقاً من عاصمتهم السليمانية. كان والده سعيد باشا (1834 -1907) من كبار شخصيات الدولة العثمانية، تقلّد فيها مناصبَ رفيعة، تارة كوزير للخارجية، وأخرى كمستشار للسلطان عبدالحميد الثاني.
تزوج شريف باشا من أمينة خانم حفيدة محمد علي باشا الكبير حاكم مصر. نتج عن زواجه اكتسابه لمزيد من الأموال والأراضي حتى صنف كأحد أثرياء السلطنة العثمانية. أجاد عدة لغات أجنبية، وعندما حدث انقلاب الاتحاديين سنة 1908، تعاون معهم في البدء، ثم اختلف مع سياساتهم الشوفينية التركية. انتقل إلى صف معارضة الاتحاديين وناضل ضدهم بعد أن عرف أنهم معادون لتطلعات وتحرر الشعوب الكوردية والعربية. بدأ نشاطه السياسي والدبلوماسي في باريس. كان مدافعاً صلباً عن حقوق كل الشعوب المنضوية تحت حكم السلطنة العثمانية، وقف بقوة إلى جانب الأرمن في محنتهم. أسس حزب الإصلاحات سنة 1909، وكان حزباً معارضاً فعالاً. أصبح الناطق الرسمي لقوى المعارضة المضادة للاتحاد والترقي خارج البلاد. تصاعد نشاطه في أوروبا وباريس. أصدر جريدة (مشروطيت) الإصلاحية في باريس بين سنوات (1914 -1909). كتب فيها ومولها بنفسه.
كان شريف باشا شخصية كاريزمية تصدر المشهد السياسي المعارض للأتراك في أوروبا. أثبت حضوره كشخصية متنورة وتقدمية وضد الرجعية والاستبداد. وكان على اتصال وثيق مع الحزب الاشتراكي العثماني في باريس. كان ناشطاً وفعالاً طوال سنوات (1899 – 1920)، وكان من أوائل من دعى الى المساواة بين الأمم والأقوام في الشرق. تعرض للملاحقة، كما تم اضطهاد أقربائه من قبل سليمان نظيف والي الموصل المعادي للكورد، رغم أصوله الكوردية. تمت محاولة اغتيال شريف باشا في باريس سنة 1914 ونجى بأعجوبة، حيث لجأ الحكم التركي الاتحادي إلى تكليف وارسال فريق من ثمانية اشخاص بقيادة مدير امن استانبول الى باريس لاغتياله. ضجت الصحف بعد الكشف عن أبعاد حادث الاغتيال.
كان اصلاحياً وليبرالياً لدرجة أن خوله بعض الليبراليين الأتراك العثمانيين لتمثيلهم في المحافل الدولية، وخاصة بعد مؤتمر جنوى الذي عقد في إيطاليا. وأصبح شريف باشا ممثلاً عن الشعب الكوردي بعد أن اشترك في 16 كانون ثاني 1919 في المؤتمر العثماني الذي عقد في جنوى الإيطالية وحضرتها شخصيات كوردية وتركية. وحسب نبأ نشر يوم 20/1/ 1919 في جريدة نيويورك تايمز: عقد مؤتمر الليبراليين العثمانيين في جنوى، وتم تكليف شريف باشا بتمثليهم في لقاءات مؤتمر الصلح في باريس. وبهذا الخصوص فان هذه الوفود منحت شريف باشا كامل الصلاحيات، وبلغت برقياً كل من الرئيس الأميركي ولسون ورؤساء الوزارات: فرنسا وبريطانيا وإيطاليا (كليمانصو، ولويد جورج وأورلاندو) بشأن الموضوع، ولكن بعد إصرار جمعية تعالي كوردستان، فضل شريف باشا تمثيل الكورد فقط.
وبعد ذلك بشهر أعلن شريف باشا أنه لم يعد يمثل العثمانيين وانما يرأس وفد الكورد ويمثلهم فقط، وعندما قرر شريف باشا ذلك، كتب وأعلن انه يمثل الكورد ويطالب بحقهم، حدثت ضجة وانتاب سرور بالغ الأوساط الكوردية، بحسب مجلة (زين) الناطقة باسم جمعية تعالي كوردستان. كونه كان يتمتع بقدرات ومهارات دبلوماسية عالية.
لقد أنجز شريف باشا الكثير في مؤتمر الصلح بباريس، فقد قدم مذكرة على شكل دراسة موجزة يشرح فيها تاريخ الكورد ومناطق كثافتهم السكانية، كما اتفق مع الأرمن وترجم حسن علاقته معهم، بتشجيع من أميركا وبريطانيا، الى اتفاق سياسي. وكان دوره رئيسياً في وضع الأساس القانوني لحقوق الكورد في الاستقلال، ولكن للأسف قبل انتهاء مؤتمر الصلح، تمت محاربته وتشويه سمعته، حيث دبت الخلافات بين القيادات الكوردية، خاصة بعد أن تنازل سيد عبد القادر النهري رئيس جمعية تعالي كوردستان عن حق الاستقلال لكوردستان، وفضل فقط الحكم الذاتي، وطلب من شريف باشا الاستقالة.
لذلك قدم شريف باشا استقالته من رئاسة الوفد قبل توقيع معاهدة سيفر في نيسان 1920 تحت ضغط التيار الذي يمثله شيوخ الدين المتعاطفين مع العثمانيين في جمعية تعالي كوردستان، لأن الشيخ عبد القادر كان يطالب بالحكم الذاتي فقط وكان يميل نحو العثمانيين، وينتمي إليهم. انتهى دور شريف باشا وخسر الكورد موقعهم الدبلوماسي المفاوض في مؤتمر الصلح خاصة بعد أن أعلن السيد عبد القادر ان الكورد غير ممثلين في سيفر، وكان يفضل الاتفاق مع حكومة تركيا لحل المسألة الكوردية، ورفض حلها دولياً عبر مؤتمر الصلح في باريس.
بعد استقالة شريف باشا تم نظرياً تعيين بديل له لتمثيل الكورد في سيفر وبعدها في لوزان، لكن لم يسمع أحد بهذا البديل، وربما لم يتواجد في قاعة المؤتمر، لذلك تباعد البدرخانيون المطالبين بالاستقلال والأكثر راديكالية بين الزعامات الكوردية عن السيد عبد القادر، الذي دفع ثمن تعاطفه مع العثمانيين وتراجعه عن مطلب الاستقلال حياته، حيث أعدم من قبل الحكم الكمالي لاحقاً سنة 1925، وهو في سن الخامسة والسبعون.
كان لانسحاب وغياب شريف باشا دور أساسي في ضعف النصوص والبنود ذات العلاقة بإقرار حقوق الكورد في سيفر، وخاصة انشاء دولة مستقلة واسعة المساحة، واختفت لاحقاً في لوزان تلك الحقوق من نصوص المعاهدة تماماً سنة 1923، بمعنى تغييب الحقوق السياسية والسيادية للأمة الكوردية في عصر القوميات.
لقد ظل مفتاح استقلال كوردستان بيد شريف باشا، حيث كان مؤثراً وناشطاً في كل أوروبا، كان يجيد عدة لغات، ويمتلك شبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية على أعلى المستويات. كان يعمل ويناور ويكتب مطالباً بالاستقلال والحرية لكوردستان، لدرجة أن عرف في الأوساط السياسية الأوروبية بـ (أبي الكورد)، كما كانت بريطانيا تميل الى اقتراحه كرئيس لدولة كوردستان المستقلة نظرا لمواصفاته ومهاراته القيادية، لكن تمت محاربته من قبل الأتراك بمنهجية، وتمت تشويه سمعته على أنه (نا شريف)، ويشرب الشمبانيا. تمت محاربته بدعاية منظمة وقفت خلفها حتى بعض الأوساط الكوردية، لكن جبهة الهجوم عليه كانت اتحادية تركية شوفينية، والتي سبق لشريف باشا أن شخصهم ووصفهم بالمشوهين لسمعة وتاريخ الكورد.
فقد سبق له أن كتب ونشر في جريدته (مشروطيت) سنة 1910 مقالاً عن المساواة بين الأقوام، وفي مقال آخر سنة 1913: "تناول فيه موضوع مستقبل الأقوام في البلد بالبحث والدراسة. وفيما يتعلق بقضية الكورد ضمن هذا السياق في المقال ذكر أن وراء ما يشاع عن الكورد من الانطباع السيء هم الأتراك. وما الضغوط الموجهة ضد هذه الأمة الشهيرة بصفات حميدة من الإباء والشمم والفروسية إلا من قبل جمعية الاتحاد والترقي التي تلجأ إلى ذهنية طورانية مقيتة".
وهكذا وبجهود تركية وكوردية طويت صفحة شريف باشا السياسية، حتى انزاح تماماً وخرج من المعترك السياسي. عاد الى مصر لكي يعمل في أراضي زوجته الواسعة على ضفاف نهر النيل، وثمة إشارات أخرى إلى أنه كان يساعد النشطاء الكورد حتى سقوط جمهورية كوردستان في مهاباد سنة 1947. لقد ظلم وأهمل لدرجة أن تم الاختلاف حول مكان وسنة وفاته، حيث توفي شريف باشا في إيطاليا سنة 1951، وبموته انطفأت شعلة من الذكاء والنور كانت تضيء سماء كوردستان من الخارج، وكان أول شخصية قادرة على دفع عجلة استقلال كوردستان نحو الأمام، لكنه منع من ذلك، فقد كان أول مثقف كوردي تمت محاربته من قبل الزعامات الكوردية الجاهلة، ومازالوا يحاربون أمثاله.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً