قبل أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة عام وبينما كان (الفراعنة) في حرب البقاء والارتقاء مع (الحيثيين) احتاج الملك (تحتومس الثالث) أن يروع ويزعزع قوة العدو المتحصن وراء أسوار (يافا) المنيعة وأبوابها المغلقة.
فلجأ قائد جيشه إلى إدخال مائتي جندي من جنوده داخل الحصن عبر أكياس القمح، بعد ان وجد ضالته في اشخاص من ابناء المدينة مستعدين للتعاون معه، وبذلك نجح جنوده في إثارة الوضع و الفتن في صفوف العدو وفتح أبواب الحصن أمام جيوشهم، ليكون الفراعنة أول من أسس ومارس الجاسوسية في التأريخ.
ونرى الفرعون يجازف مرة أخرى بأبرع علمائه، طبيبه الخاص (سنحاريب)، فيبعثه إلى بلاد العدو لما يختص به من علم بالأسفار وأحوال البلاد والأمصار، ليعود له بسر (صناعة المعدن الجديد)، بعد أن مكث فيهم طويلاً يطبب مريضهم ويداوي عليلهم، حتى ذاع صيته فصار طبيب الملك المفضل، وشاء القدر مرة أن يعالج بحّاراً من علة أليمة ألمت به، فطلب سكينه الخاص كتذكارٍ بينهما، بدل المكافأة التي عرضها عليه البحار جزاء تطبيبه، ليعود ويضع سر المعدن الجديد بين يدي الفرعون.
متواليات القصص التاريخية الحقيقية عن الجاسوسية والأسطورية كثيرة، ومن خلالها تحاول الدولة أن تزرع عيوناً في أي مكان تشعر أنه قد يشكل خطرًا عليها، لتضمن بقاءها محصنة قوية.
الجاسوسية هي نوع من أنواع الاتصال الإجرامي مع دولة أجنبية عن طريق المندس الذي يعمل على تسريب معلومات مهمة ربما عن دولته لصالح دولة أجنبية، ما يساعدها على زعزعة أمن واستقرار بلد جار أو صديق أو عدو بشتى الطرق.
الجاسوس بطبيعة الحال إنما ينخرط في هذا العمل لخدمة دولة أجنبية لأسباب وإن كانت غير مبررة، فقد يعزو عمله لمغريات مادية، أو لوجود أوراق ضغط عليه، بسبب سابقة إجرامية ارتكبها، أو لتعرضه للتهديد والمساس بأمنه وأمن عائلته.
إذن تنحسر الجاسوسية في العالم بين القائد الذي يسخّر قدرته المخابراتية والتلصصية في زرع عيون وآذان وأذرع وألسنة في دول الجوار حفاظًا على سلامة بلده، وبين الجاسوس الذي يبيع أسراراً مهمة لدولة عدوة معرضاً بلده للخطر.
إلا أنه لم يحصل مسبقاً أن يقوم قادة ورؤساء وسياسو دولة ما بالعمل لحساب دولة أجنبية أو معادية لدولتهم كما في العراق، حيث تقتحم أسواره المخابراتية والمعلوماتية وتباح أسراره ومقترحاته بمنتهى السلاسة واليسر والسهولة لجميع الدول الصديقة والعدوة. وبرغم أن الدستور العراقي ينص في المواد (156)، (157) و(158) بما يتيح لقانون العقوبات العراقي بسن أشد العقوبات، لتصل إلى الإعدام في أغلب الأحيان، كما في الباب الأول من المادة (156) من الدستور "على من يجرؤ المساس بأمن الدولة الداخلي والخارجي".
نجد على سبيل المثال لا الحصر، وبينما أعضاء البرلمان العراقي منهمكون في التصويت على بعص المقترحات تحت قبة البرلمان ذات الحصانة والقدسية التاريخية، تسريب أحد الأعضاء في اللحظة ذاتها تلك المقترحات من خلال جواله (الموبايل) إلى دولة جارة (صديقة)، لتقوم الجارة بالضغط المباشر على صناع القرار ونسف المقترح لعدم تماشيه مع مصلحتها، وإن ترتبت عن قرار العدول أضرار بليغة بالعراق على الأصعدة كافة.
وكان الأجدر بهذا البرلمان ذي الأغلبية الشيعية أن يقدم مذكرة اعتراض للأمم المتحدة على قطع منابع المياه الدولية بدلا من تسريبه لقرارات البرلمان، حيث تقطع الجارة مجاري (48) نهراً تنبع من أراضيها صوب الأراضي العراقية.
بينما نجد قيادياً آخر معروفاً وقد تبوأ منصباً مهماً في دولتنا العميقة، لا يتوانى في تصريحه بأنه سيقاتل مع صفوف تلك الجارة ضد جيشنا إذا ما احتدم القتال يوم ما بين البلدين. ومن خلاله فإن ملفات وقرارات البلد تأتي وتذهب بشكل مباشر إلى الجارة كي يستمر هذا القيادي محتفظًا بمنصبه.
قيادي كبير آخر يوعز بصرف رواتب لقتلى داعش واعتبارهم شهداء، وهو ذاته من قام بتسريب ملفات مهمة لدولة شقيقة مقابل وعده بالضغط على الحكومة العراقية لغلق ملف (عشرات الأولوف من قطع الأراضي المسروقة)، وأيضاً تسريب معلومات مهمة عن مدينة (الموصل) واستثماراتها لصالح جارة صديقة ضماناً منه للدعم والحماية الدولية.
الجارة الصديقة هي ذاتها التي قطعت منابع نهر دجلة وتسببت بجفاف الأراضي العراقية وتراجع الغطاء الأخضر وعمّ التصحر وجفت الأنهر وروافدها الرئيسة وارتفعتْ درجات الحرارة الى أرقام غير مسبوقة، بينما كنا نتوقع من هذا القيادي أن يهدد بقطع العلاقات التجارية والسياحية واستخدامها كورقة ضغط على الجارة التي تعاني أصلا من حصار اقتصادي دولي منهك، إذ كان يمكنه استثمار هذا الملف كورقة ضغط عليها لعودة الإطلاقات المائية إلى سابق عهدها.
قيادي آخر أهدى أربعين سيارة مصفحة لـ(داعش) ما زالت ترتع في دير الزور حتى يومنا هذا، ليقلد ويكافأ بمنصب (قائم مقام) بمباركة إقليمية وحكومية.
يستمر تقليد الجواسيس أعلى المناصب وتكريمهم على خيانتنا وإيذائنا ونحرنا، وتستمر هداهد سليمان بنقل كل نبأ عظيم ولقم الحجيم مخترقة عفاريت الجان والدستور واللجان، بنشر أخبارنا وأسرارنا المهمة مخططاتنا وثرواتنا وبياناتنا الشخصية على الملأ. فسياسي يجازى ويكرم على خيانة البلد، وطفل يسجن لسرقة حفاظات لأخيه الصغير.
ما لكم كيف تحكمون؟ أفتوني في أمري إن كنتم للدستور تعبرون!
ملاحظة: من المتعارف عليه في الأدبيات إطلاق تسمية (جاسوس) على الشخص الأجنبي الذي يخترق وطننا لصالح بلده هو، وكلمة (عميل أو خائن) على المواطن الذي يسرب معلومات وطنه لصالح بلد آخر. لكنني وجدت أن هؤلاء الخونة لا ينتمون إلى الوطن الذي ولدوا فيه بل إلى البلدان التي جندتهم، لذا وجب إطلاق تسمية (جاسوس) عليهم.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً