كنت على علم بأن أباه كان من فرسان الملك محمود، رجلاً شجاعاً يقول الكلمة في وجه المعني بها مخلصاً للكورد، وقبل وفاته، روى كل مجريات حياته لابنه الملا نوري، لتطبع وتنشر كمذكرات ووثيقة تاريخية عن عهد الملك محمود. وددت أن أزوره لأعرف منه إجابات على بعض تساؤلات تاريخية، وعندما هاتفته أجاب مسروراً: باب داري مفتوح لك على مصراعيه!
داره واحدة من الدور العتيقة في المدينة، لها باحة واسعة وبعض غرف وشرفة، دار لاتزال تعبق بعطر الأرض والكتب القديمة والمخطوطات الدينية.
عدد من تلاميذ الدراسات الفقهية يحومون حول أستاذهم الذي كان بانتظار أسئلتي. الغرفة كانت أشبه بـ(الحجرة = المدرسة التي تعد علماء الدين الإسلامي الكورد) العتيقة لكنها مضاءة ومفروشة جيداً. كان بودي لو أخبرني كل شيء، كأنه نبع رائق يخرج بتؤدة من قلب جبل، لذا أسررت في نفسي أن هذا هو بحق موضوع لبرنامج (پەنجەمۆر = بصمة) فاتفقنا، لنروي في عدد من الأجزاء الأحداث الحبلى بالماجريات.
الأستاذ، كان إمام طابور في الجيش العراقي، وربما يتساءل البعض كيف كان مخلصاً للكورد وعمل إماماً في جيش محتل كجيش العراق، وهو سؤال في محله، وربما بإمكان الأستاذ أن يجيب عليه، وهو الذي شهد بفضل مهنته العشرات من الأحداث التاريخية الهامة التي لها قيمتها ووزنها.
الزمن هو بدايات ثورة أيلول، وبعد التضييق على الجيش العراقي من قبل قوات الثورة في دربند بازيان ودربنديخان، شن الجيش بكل ما أوتي من قوة هجوماً باتجاه مناطق بهدينان وبارزان، وغايته كما كانوا يعلنون بأنفسهم أن "يقضوا على رأس الحية"، فقد سبق للبارزانيين أن انتفضوا مراراً على الجيوش العثمانية والتركية والعراقية. روى لي الأستاذ عدة حوادث واقعية، سجلتها عندي كوثائق تاريخية، وهي تظهر لنا مدى وفاء البارزانيين للجنرال بارزاني.
حدثني الأستاذ بنبرة الملالي هكذا: "كنا نحن الفوج الأول من اللواء الرابع للجيش العراقي، وكنا أول فوج دخل بارزان. كان آمر لوائنا يريد اختبار عقلية البارزانيين ومدى وفائهم لزعيمهم. فجاء ذات يوم بصبي في السابعة أو الثامنة، كانت هناك حينها عملة معدنية من فئة 25 فلساً، كان حجم هذه العملة صغيراً قياساً بتلك التي من فئة الـ100 فلس! أخبروا الصبي بأن هذه الـ25 فلساً تخص ملا مصطفى البارزاني وتلك 100 فلس تخص عبدالكريم قاسم زعيم العراق، فأيهما تختار؟ قال الصبي سأختار الـ25 فلساً! وعندما سألوه لماذا، فهذه فئتها أقل من الـ100 فلس؟ قال: ألم تقولوا إن هذه تخص ملا مصطفى، ما يعني أنها تخص زعيم الكورد، في حين أن الـ100 فلس تخص عدو ملا مصطفى! ولهذا أختار ملا مصطفى! كان حقاً طفلاً شجاعاً".
من بين الحوادث الأخرى أن ضابطاً في الجيش عربياً، كان معه ابن له برتبة ملازم، روى لي هذه القصة المثيرة للوجدان بهذه الطريقة: "كناً جنوداً شاركنا في مقاتلة ثورة بارزان الأولى، قصفنا القرية بالمدفعية، وعندما دخلنا القرية وجدنا امرأة أصابتها قذيفة مدفع شقت بطنها وقتلتها، وكان طفل جالساً بجانب جثتها، حملت الطفل معي وأخذته إلى دارنا ورعته زوجي، وهو هذا الرجل الذي معي وتراه إلى جانبي، إنه الطفل الذي قتلت أمه قذيفة مدفع لجيشنا، وهو الآن يحمل رتبة ملازم". واصل الأستاذ روايته متحسراً وتساءل ترى كم غيره من أولاد الكورد تركوا في تلك الجبال والوديان بلا أم ولا أب وباتوا طعاماً للوحوش وهم أحياء.
قصص وروايات الأستاذ جمة وسننشرها مستقبلاً، لذا أريد أن أنهي هذا المقال بالقصة المأساوية الآتية، ولأن الأستاذ رجل دين وشخصية صادقة، سألته هل تصدقون أن نساء وبنات كورديات مؤنفلات جرى بيعهن لدول عربية؟
أجاب الأستاذ على سؤالي هكذا: "مما رأيت بعيني وسمعت من موثوقين، هو حقيقة أنهم في أيام الأنفال كانوا يطلبون من المستشارين الكورد (رؤساء الوحدات المسلحة غير النظامية الكوردية التابعة للحكومة = وكانوا يسمون بالجحوش من قبل الأهالي) أن عليك أن تأخذ الليلة فتاتين كورديتين لآمر اللواء أو الضابط الفلاني، وقد وقع هذا في أماكن عدة، ويمكنني أن أقسم على ذلك! لذا فإن شخصاً يقدم على أمر كهذا (العمالة للنظام ضد شعبه) لن يردعه رادع عن بيع فتاة أو سيدة لقاء حفنة من المال".
السؤال الرئيس هو: هل استقى الكورد أي درس من كل تلك المآسي التي حلت بهم؟
ترى متى سنكون قادرين على التمييز بين الصالح والطالح؟
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً