من أهم العلاقات التي تطمح الدولة العراقية في تحسنها واستقرارها هي العلاقات مع الجارة القوية المهمة تركيا، وكذلك هي الحال بالنسبة للجارة تركيا، فعلاقاتها مع العراق مهمة وحيوية لاسيما وانها تعتمد بشكل كبير على مستوى التبادل التجاري مع العراق التي هي في جلها وغالبيتها العظمى لصالح الاقتصاد التركي الذي لا يعتمد على الطاقة كما هي بالنسبة للعراق.
لكن هذه العلاقات ورغم أهميتها الستراتيجية وضرورتها بالنسبة للدولتين الجارتين الا انها لم تستقر كثيراً ولم تصل الى مستوى الاستقرار الذي تطمح اليه سلطات كل بلد مع دولة جارة مهمة وحساسة، وأسباب ذلك كثيرة منها الاسباب التاريخية التي يمكن لنا أن نصف بها وجود طموح تركي للعودة الى خرائط قبل أكثر من قرن عندما كانت مناطق مهمة وغنية بالبترول في العراق جزءاً من الدولة العثمانية التي امتدت رقعة سلطتها الى مناطق كثيرة وكان العراق جغرافياً ضمن هذه السلطة التي انتهت منذ زمن بعيد، لذلك فان الاعتماد على تحسين وتكوين العلاقات ورسم سياساتها في هذه المرحلة يجب أن تكون ضمن الواقع الموجود وعدم الالتفات الى تاريخ قد مضى ولن يعود بالشعارات والامنيات .
اذن أمام الدولتين فرصة كبيرة لتحديد مسار العلاقات الايجابية والبناءة بين الطرفين اساسها المصالح المشتركة واحترام حسن الجوار وعدم التدخل او حتى عدم نقل الازمات عبر الحدود على الرغم من صعوبة هذا الامر مع وجود تهديدات فعلية وملموسة للامن، لاسيما للجانب التركي الذي يشعر بعدم الاستقرار والقلق من وجود جماعات مناهضة ومعارضة لها على طول الحدود بينها وبين الجارة الجنوبية العراق وأخطر ما تشعر تجاهها تركيا بالخطورة وعدم الاستقرار هو بقاء ونشاط حزب العمال الكوردستاني في الشريط الحدودي القريب جداً بين العراق وتركيا، ومنها مناطق تتداخل ضمن الشريط الحدودي الثلاثي المشترك بين العراق وتركيا وايران، وقد زادت خشية الأتراك ومخاوفهم من نشاط عسكري وأمني يهدد الداخل التركي بعد توسع عمليات ونشاطات حزب العمال الكوردستاني سواء عبر الحزب الاصلي أو أحزاب حليفة توالي حزب العمال الكوردستاني في مناطق أخرى خارج حدود اقليم كوردستان العراق، منها منطقة سنجار والمناطق الواقعة تحت سيطرة الادارة الذاتية الكوردية في شمال وشمال شرق سوريا ذات الغالبية الكوردية.
ففي الوقت الذي تشعر تركيا بأن تحركاتها وعملياتها العسكرية في مناطق داخل اقليم كوردستان لا تواجه بمعارضة كبيرة لاسيما من السلطات العراقية أو حتى من قبل الدول الكبرى المؤثرة مثل الولايات المتحدة الا أن تركيا تشعر بأن الدعم الأميركي لجماعات في داخل سوريا لاسيما المناطق القريبة من حدودها ووجود دعم رسمي غير مباشر من متنفذين في العملية السياسية في العراق لعناصر تعتبرها تركيا مهددة لأمنها القومي في مناطق سنجار وسهل نينوى يمكن ان يكون ذلك الدعم موجهاً من قبل اطراف اقليمية، مما يعقد الوضع في تلك المناطق ويعقد اي تدخل تركي مباشر لتحجيم او حتى انهاء خطر تلك الجماعات، مما يعني ان امام تركيا تعقيدات ليست بالسهلة في التعامل مع هذه التحديات .
علاقات تركيا ايجابية مع قيادات سياسية في اقليم كوردستان لاسيما مع الحزب اليمقراطي الكوردستاني، لكن في الجانب المقابل تشهد علاقاتها توتراً واضحاً مع الشريك الاخر الاهم في اقليم كوردستان الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي ضغط تركيا عليه من اجل وقف الدعم لحزب العمال الكوردستاني من قبل هذا الحزب كما تدعي تركيا، لكن في الاونة الاخيرة ومع العمليات العسكرية الاخيرة التي تشهدها مناطق وساعة في حدود محافظة دهوك في اقليم كوردستان يلاحظ ان العلاقات من اجل معالجة ما تشعر تركيا بانها تهديدات لأمنها القومي بدأت في نقل هذا الملف مع الحكومة الاتحادية لاسيما مع الزيارة الاخيرة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى بغداد وقبلها زيارة وفد وزاري رفيع من تركيا والتباحث مع نظرائهم العراقيين من أجل ايجاد معالجة عملية لما تصفه تركيا بتهديد مباشر من قبل عناصر حزب العمال الكوردستاني وهو الامر الذي اخرج القيادة الكوردية التي كانت تتصدى وتتحمل تبعات هذا الملف منذ زمن بعيد .
العلاقات بين تركيا والعراق ومنضمنها اقليم كوردستان تمر بين الحين والاخر مد وجزر بسبب استمرار المشاكل الامنية لتركيا ومع عدم اعتراف حزب العمال الكوردستاني بسلطات الاقليم نجد ان الصعوبات في معالجة الملف اصبحت اكثر تعقيداً لاسيما بعد فشل الجهود التي بذتها القيادة الكوردية منذ سنوات في ايجاد ارضية مناسبة لمعالجة سياسية ودبلوماسية للمسألة الكوردية في تركيا، وكان للتدخل الاقليمي وتأثيره على القرار جانباً مهماً في افشال هذه الجهود للاسف، لذا فان الانظار الان تتجه الى ما تقوم به الحكومة الاتحادية لمعالجة الازمة ووضع اطار امني للعلاقة مع تركيا على خطى الاتفاقية الامنية التي وقعتها الحكومة الاتحادية مع الجانب الايراني العام الماضي، والمتعلق بتواجد المعارضة الكوردية الايرانية على الاراضي العراقية في حدود اقليم كوردستان، الا ان هذه المهمة لن تكون سهلة للحكومة الاتحادية في ظل وجود ضغوطات من أطراف داخلية متنفذة في العراق على الحكومة الاتحادية، مما يعقد فعلاً مهمة الحكومة في الالتزام بأية اتفاقيات رسمية مع الجانب التركي .
في الجانب الاخير فان للعراق مطالب مهمة وحيوية من الجانب التركي، الامر الذي يساعد العراق الرسمي على عدم تقديم ما تريده تركيا بسهولة وبدون مقابل، وهذا حال العلاقات السياسية والدبلوماسية التي تعتمد على مبدأ المصالح المشتركة، فالعراق بحاجة ماسة الى اطلاق المياه بصورة تلبي احتياجات العراق من المياه لاسيما وان نهري دجلة والفرات الشريان المائي للعراق ينطلقان من داخل الاراضي التركية لاسيما ما يتعلق بنهر دجلة الذي يدخل العراق مباشرة من الاراضي التركية دون العبور عبر الاراضي السورية، كما هو حال نهر الفرات، كما ان تركيا تعتبر احدى المنافذ المهمة لتصدير النفط العراقي عبر اراضيها لاسيما المتعلقة بميناء جيهان التركي، وهو امر اخر لم يشهد معالجة الى الان بعد قرابة عام ونصف من توقف تصدير النفط من اقليم كوردستان عبر الاراضي التركية والذي كبد الخزينة العراقية نحو 15 مليار دولار حتى الان والخسارة تزداد يوماً بعد آخر اذا ما علمنا حسب خبراء متخصصين ان خسائر توقف التصدير عبر ميناء جيهان منطلقاً من اقليم كوردستان تصل يومياً الى 28 مليون دولار اميركي .
الحديث عن العلاقات بين تركيا والعراق متشعب ومعقد ويحتمل الكثير، الا ان الحاجة الى تحسين واستقرار هذه العلاقات سواء الدبلوماسية او السياسية والاقتصادية والامنية بحاجة الى قرار شجاع من الطرفين والى التزام بمواثيق دولية تنظم العلاقات بين الدول، لاسيما الدول التي تحتكم الى مبدأ الاحترام المتبادل وحسن الجوار، لكن مع ذلك فالمراقب للوضع يرى في هذه العلاقات فعلاً تحديات كبيرة لادامة الاستقرار فيها والوصول الى حسن جوار يستفيد منه الطرفان .
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً