تجاوز الخلافات لعلاقة مستدامة

21-04-2024
ديار كورده
الكلمات الدالة السوداني الولايات المتحدة العراق
A+ A-
دیار کوردە- واشنطن 

في زيارته الرسمية التي دامت أسبوعاً، التقى رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في الولايات المتحدة، الرئيس الأمريكي جو بايدن في المكتب البيضاوي، أشهر مكاتب الجناح الغربي للبيت الأبيض، إذ عقد العديد من اللقاءات والاجتماعات في مقر إقامته بفندق ويلارد إنترناشنال، حيث زار مسؤولون أمريكيون مقر إقامة السوداني، بدءاً بوزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى وزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركا، وكبار أعضاء مجلس الشيوخ والمسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين وأعضاء آخرين في الكونغرس ورجال الأعمال الأمريكيين.

كصحفي، قمت بتغطية دقيقة لزيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي وحاولت التحدث مع معظم المسؤولين الأمريكيين والعراقيين الذين شاركوا في اجتماعاته، ولهذا أحاول هنا وإضافة إلى التغطية التي أنجزناها، أن أسلط الضوء على الجانب الذي وراء المحادثات التي شهدتها الزيارة.

قرارات وخطوات حكيمة

 
قبل أن أخوض في الحديث عن الزيارة نفسها، سأتحدث عن الخطوات التي عززت نجاح زيارة السوداني لأمريكا. فعندما سلم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في أيلول 2023 في نيويورك دعوة رسمية من الرئيس جو بايدن لرئيس مجلس الوزراء الاتحادي العراقي محمد شياع السوداني، اعتقد كثيرون أن رئيس الوزراء السوداني سيواجه أكبر اختبار سياسي له وأسئلة صعبة من الرئيس وكبار المسؤولين الأمريكيين؛ وأنهم سيتناولون مسألة انسحاب القوات الأمريكية، إلى مسألة الفصائل المسلحة خارج سيطرة الحكومة العراقية وتصادمها مع أمريكا، والمشاكل بين أربيل وبغداد، والعقوبات الأمريكية على الشركات والمصارف العراقية والصراع بين إيران وأمريكا، لكن ما سمعته من مسؤولين أمريكيين وعراقيين خلال هذه الأيام، ورغم بعض العتب والانتقادات التي ليست بالشديدة، أظهر أن أجواء اللقاءات بين السوداني وجو بايدن، وبينه وبين المسؤولين الأمريكيين الآخرين، كانت إيجابية تماماً وسادها الثناء. المسؤولون الأمريكيون راضون عن عمل ودور السوداني، وفي ظل الوضع في العراق، فإنْ أتيح لهم أن يختاروا شخصاً ليصبح رئيساً للوزراء مرة أخرى، فإنهم سيختارون السوداني كأفضل خيار. هذا سيرضي أيضاً الدول المجاورة للعراق، لأنها ليست لديها أي مشاكل مع السوداني، وكذلك هي حال القوميات والمكونات العراقية.

يعود نجاح الزيارة والأجواء الإيجابية التي سادت اللقاءات في جزء منها إلى بعض القرارات الحكيمة التي اتخذها رئيس مجلس الوزراء العراقي قبل مغادرته إلى واشنطن، ما جنّبه القضايا التي يستغرق حلها واتخاذ القرارات بشأنها وقتاً طويلاً كما جنّب نفسه الأمور التي هي محل قلق عميق من جانب الأمريكيين، ولو أنها بقيت على حالها، لزج الأمريكيون السوداني في زاوية ضيقة بسببها كما هي حالهم. هذه القرارات تمثلت في:

أولاً: مسألة انسحاب القوات الأمريكية:

تعد هذه المسألة شائكة وحساسة في الوقت نفسه، وحسمها بحاجة إلى الكثير من الوقت واتخاذ قرار بشأنها سيؤدي إلى تبعات وتداعيات كثيرة، لذا عمد رئيس مجلس الوزراء العراقي قبل مغادرته إلى واشنطن، لتسليمها رئيس الوزراء العراقي إلى اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية، التي باشرت عملها في كانون الثاني من هذا العام ولا تزال تعمل. وتتمثل أهداف اللجنة في العمل على مستقبل قوات التحالف الدولي والقوات الأمريكية في العراق، ويرجح أن تقرر في النهاية إنهاء مهمة التحالف الدولي وإبقاء القوات الأمريكية في إطار العلاقات العسكرية الثنائية وأن تخرج منها دول الخليج. هذا القرار جنب رئيس مجلس الوزراء العراقي أي صدامات مع الأمريكيين حول الموضوع عندما يأتي إلى واشنطن، وساعده على عدم حمل هذا الملف معه إلى البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ليتحدث بشكل عام وسلمي عن تعزيز العلاقات العسكرية ويؤجل مسألة بقاء القوات من عدمه إلى وقت آخر انتظار نتائج اجتماعات اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية، ويتمكن إلى جانب ذلك من توقيع عقد مع أمريكا لشراء 21 مروحية عسكرية والحصول على 20 مروحية كهدية.

ثانياً: الفصائل المسلحة وصراعها مع أمریکا
 
بينما كانت واشنطن وبغداد تعدان لزيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي إلى البيت الأبيض في كانون الأول الماضي، وقعت حادثة 7 تشرين الأول واستأنفت الفصائل المسلحة هجماتها على القوات الأمريكية والضغط من أجل إخراجها، ما تسبب في قلق كبير لبغداد وواشنطن لكن مسؤولاً عراقياً قال إنه تم التوصل أخيراً إلى وقف غير معلن لإطلاق النار بجهود حثيثة من محمد شياع السوداني نفسه لتتوقف الهجمات، الأمر الذي دفع أمريكا إلى الإشادة بجهود الحكومة العراقية في السيطرة على تلك الفصائل، وأزاح قضية معقدة من جدول أعمال اجتماع رئيس مجلس الوزراء العراقي مع الرئيس بايدن في البيت الأبيض، بحيث لم تذكر كلمة واحدة في بيان البيت الأبيض عن تهديدات تلك الفصائل التي سبق أن دعت واشنطن الحكومة العراقية مراراً إلى السيطرة عليها ومحاسبتها.

ثالثاً: ملف خلافات أربيل وبغداد

اجتماع رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني في بغداد قبل زيارة الأول لأمريكا وتنظيم اجتماع الإطار التنسيقي وائتلاف إدارة الدولة بحضور نيجيرفان بارزاني، والاتفاق المبدئي على الاستمرار في إطلاق رواتب إقليم كوردستان والتفاهم بشأن استئناف تصدير نفط إقليم كوردستان، قبل زيارة السوداني، جنب السوداني الوقوف في موقف غير سارّ في البيت الأبيض وإجراء الكثير من المناقشات حول هذا الموضوع، بل كان سبباً لإشادة جو بايدن به وتشجيعه على مواصلة هذا التقدم. هذه الخطوات وإشراك مسؤول دائرة العلاقات الخارجية لحكومة إقليم كوردستان سفين دزيي، في اللقاء مع جو بايدن في البيت الأبيض، جعل اللقاء مع الرئيس الأمريكي جو بايدن يسير بشكل هادئ ودفع أمريكا للثناء على التقدم في العلاقات بين أربيل وبغداد.

الأهداف الاقتصادية لا العسكرية

خلال فترة هذه الزيارة تحدثت عدة مرات مع المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي الذي أخبرني بوضوح أن الغرض من الزيارة ليس عسكرياً، بل هو اقتصادي وسياسي في أغلبه، ولهذا فإن غالبية أعضاء الوفد اقتصاديون ورجال أعمال وسياسيون وليسوا عسكريين، وأن الزيارة حققت أهدافها كما يجب.

خلال تواجد رئيس مجلس الوزراء العراقي في واشنطن، تم التوقيع على 19 اتفاقية ومذكرة تفاهم اقتصادية وتجارية مع شركات أمريكية، وعقدت عدة اجتماعات اقتصادية وتجارية من واشنطن إلى هيوستن وتكساس وديترويت بولاية ميشيغان، وكانت هناك اجتماعات عديدة اقتصادية وتجارية مع مع غرفة التجارة الأمريكية ورجال الأعمال الأمريكيين ورجال الأعمال العراقيين المقيمين في أمريكا.

في اليوم الأخير للزيارة، وعندما تحدثنا مع سفير أمريكي سابق في العراق عن رؤية السوداني، قال لي إن "رؤية السوداني للاقتصاد تبدو جيدة للغاية وتؤكد على الاستقلال في مجال الطاقة وعلى التنمية الاقتصادية وتحسين الخدمات وإنتاج الكهرباء. بحسب قراءتي، فإن نظرته إيجابية في هذا الصدد". ويعتقد معظم الأمريكيين الذين تحدثت إليهم أن رئيس الوزراء العراقي يتمتع برؤية اقتصادية قوية ويهدف إلى ربط العراق بالغرب من خلال اقتصاد قوي، وهذا موضع اهتمام وانتباه من جانب الأمريكيين الذين رأوا أن السوداني عمل بذكاء على تحديد هدف زيارته وكذلك على تحقيق أهدافها الاقتصادية.

علاقة مساحتها 360 درجة وفتح صفحة جديدة مع واشنطن

كانت العلاقات بين واشنطن والعراق غير طبيعية منذ العام 2003، بل يقوم الرئيس الأمريكي، بخصوص الاستقرار في العراق بتمديد حالة الطوارئ الوطنية في أيار من كل عام، وفي الوقت نفسِه فإن العلاقات في أغلبها عسكرية تركز على مواجهة التهديدات الأمنية. لكن محمد شياع السوداني يريد إنهاء هذه العلاقة غير الطبيعية ليكون العراق وأمريكا حليفين إستراتيجيين تربطهما علاقة مساحتها 360 درجة وتكون دائمية تشمل كل المجالات، وهذا ما جعل محمد شياع السوداني يقول في كلمة ألقاها أمام المجلس الأطلسي حول العراق، في اليوم الأخير لزيارته: "جئت إلى واشنطن لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، ومناقشة العديد من القضايا المهمة أبرزها تفعيل اتفاقية الإطار الإستراتيجي وتطوير علاقاتنا لتشمل القطاعات الأساس، الاقتصاد والاستثمار والبيئة والثقافة والتعليم والتعاون في مجال الطاقة، ولكي لا تقتصر العلاقة على الجوانب الأمنية والعسكرية وحدها. إننا مع أمريكا نتطلع إلى علاقة أكثر قدرة على الصمود، تقوم على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل والتعاون المثمر بين الشعبين". هذه هي الرؤية التي يعمل عليها الأمريكيون أيضاً، ويريدون أن تكون علاقاتهم مع العراق وإقليم كوردستان تشمل 360 درجة وتكون دائمية، تضم كل المجالات، وكان مضمون ونتائج اجتماعات رئيس مجلس الوزراء العراقي مع المسؤولين الأمريكيين انعكاساً للإستراتيجية التي تتفق عليها واشنطن وأربيل وبغداد ويريدون العمل عليها بجدية.

السير على جدار عال

هيمنة إيران وأمريكا على العراق واضحة تماماً للجميع ولا تستطيع الحكومة العراقية الاختيار بين أمريكا وإيران، لكن رئيس الوزراء العراقي يريد السير بأمان على الجدار العالي بحيث لا يسقط في الجانب الأمريكي ولا في الجانب الإيراني، وعندما تحدثت إلى السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام، الذي يناهض طهران بشدة عن هذا الموضوع، قال: "أعرف أن العراق يرتبط بعلاقة متميزة مع إيران. والولايات المتحدة تحترم ذلك"، وأضاف أنه يعرف رئيس الوزراء وهو شخص ذكي، ولهذا يعمل على الاختلاط مع أمريكا اقتصادياً وعدم حصر العلاقات في المسائل العسكرية".

على الرغم من تصريحات غراهام، لا تزال في واشنطن مخاوف بشأن الهيمنة الإيرانية على العراق، وقضية الفصائل المسلحة المدعومة من إيران في العراق وتهديدها للمصالح الأمريكية، وهي ليست قليلة، لكن الهدف الأمريكي هو دعم الحكومة العراقية، أولاً لتقليص الهيمنة الإيرانية، ثانياً، ورغم أنها ليست مهمة سهلة، العمل على وضع الفصائل المسلحة تحت مظلة الحكومة العراقية.

تجاوز القلق 

قال العديد من الأمريكيين والعراقيين الذين تحدثت إليهم، إن زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى واشنطن كانت ناجحة عند الأخذ بأهدافها، وخاصة الاقتصادية.  
لكنْ بخصوص مسألة بقاء التحالف الدولي ضد داعش في العراق، لا تزال ثمة حاجة إلى مفاوضات أكثر، ولا تزال الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء غسل الأموال في العراق، ولكي تستعيد الثقة بالبنوك العراقية المدرجة في القائمة السوداء، توصلت إلى تفاهم حول حلّ مشكلاتها.
كذلك في ما يتعلق بخطوات العراق للاعتماد على الغاز الطبيعي، رحبت الولايات المتحدة بخطوات العراق، وتترقب المزيد من اعتماده على نفسه لإنتاج الكهرباء.

عودة السوداني

كان السابع من تشرين الأول والأحداث التي تلته بمثابة ناقوس خطر قوي أيقظ أمريكا من سباتها العميق ونبهها إلى أن إهمال الشرق الأوسط خطأ كبير ترتكبه هذه الإدارة، عندما انشغلت بحرب أوكرانيا والتهديدات الروسية والصراع مع الصين ووضعت ملف الشرق الأوسط على الرف، بحيث لم تكن التقارير اليومية لمجلس الأمن الأمريكي التي ترفع للرئيس بايدن تذكر الشرق الأوسط والعراق ولو بسطر، لتعود تلك التقارير بعد 7 تشرين الأول لتخصيص جزء كبير منها للشرق الأوسط والعراق. الأمر الذي جعل من زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى المكتب البيضاوي تحظى باهتمام مضاعف من بغداد وواشنطن. مرة لمناقشة بناء علاقة طويلة الأمد تغطي زاوية 360 درجة، بدءاً بالقضايا الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، وصولاً إلى القضايا الثقافية والتعليمية، إلى جانب عودة السوداني إلى العراق وهو في موقف أقوى، بعد أن تمكن من النأي بنفسه عن القضايا التي يمكن أن تكون بمثابة قنابل تنفجر عليه، ليصبح مهندس وضع الحجر الأساس لعلاقة قوية وطويلة الأمد بزاوية 360 درجة مع أقوى دولة في العالم، ستكون أساساً متيناً لعلاقات الحكومات العراقية القادمة مع واشنطن.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب