لستُ قومياً متعصباً ولا إقليمياً متحجراً أو متحزباً، بل أنظر إلى شعبي وأهلي وإخواني في العراق وسوريا بعيون العدل والإنصاف، وأقول استدلالاً بهذه الآية الكريمة: {إِنْ أُرِيدُ إِلّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} ذلك الإصلاح الذي تقتضيه الفطرة السليمة، والعقل الحر والضمير الحي لما فيه الخير لأمتي ولشعبي ولقوميتي ولوطني الكبير، ولأنَّ الكلمة أمانة والموقف شهادة فإني أبذل جهدي لنطق كلمة الحق وللدعوة إلى بناء عهد جديد يقوم على الشراكة العادلة والاعتراف المتبادل في عراقٍ نهض من جراحه، وفي سوريا جديدةحديثة تنبثق من رماد محنتها إلى آفاق العدالة والحرية .
لا تستقيم دعائم الدساتير الانتقالية ولا تستكمل شرعيتها ما لم تنطلق من إرادة جامعة ومشاركة عادلة لمكونات الأمة التي تُناط بها مهمة بناء الدولة الجديدة، ولسوريا اليوم في ظل الإعلان الدستوري المعتمد للحكومة الانتقالية وقفة لابد منها، تقف عندها العدالة الدستورية أمام اختبار عسير، فالأكراد شعب عريقٌ وركن أصيل في الخارطة السورية مايزالون على هامش النصوص وغرباء عن مائدة الحقوق، فكأنهم غرباء في ديارهم، ولا جرم أن هذا التجاهل في الدستور الموقت هو تجاهل للتاريخ وإنكار للحاضر وإضرار بمستقبل سوريا كدولة حرة متعددة الأطياف والأعراف قوامها العدالة والشراكة في الهوية والمصير .
إنَّ من يقرأ مواد الإعلان الدستوري السوري لا يجد ما يطمئن على حقوق الكورد بوصفهم مكوناً قومياً متجذراً في تأريخ سوريا وفاعلاً في حروبها وسلمها وثورة شعبها ضد الكتاتورية والاستبداد، وإنَّه لمدعاة للتعجب والاستغراب أنْ تغفل اللجنة التي صاغت هذا الدستور الانتقالي عن الدروس القريبة وما أقربها من الجارة العراق حيث أُرسيت قواعد الشراكة الكاملة ومنحت القوميات كافة ضمانة للوجود والكرامة وتمثلت في الدستور الانتقالي لعام 2004 الذي مهَّد لدستور 2005 الدائم. فكيف يغفل الإعلان الدستوري السوري عن نموذج العراق الذي هو أقرب الأمثلة له في التركيبة السكانية والتاريخية والتعددية؟ وكيف له أن يغفل عن تجربة مصر القانونية وهي التي أخذت بيد شعوبها ومكوناتها على الرغم من عمق أزمتها؟.
لقد كان لزاماً على القائمين على الدستور السوري الانتقالي أن يتحرروا من كل ضغط محلياً كان أو دولياً و ألاّ يقعوا تحت أي مبرر يسوغ إقصاء أيّ من مكونات الشعب السوري، ولاسيما الأطراف الرئيسة الفاعلة، فكان الأولى بهم أنْ يستوعبوا عمق الأزمة وأنْ يقرأوا بوعي بصير الوقائعَ والتجارب ماضيها وحاضرها بما يجنّبهم تكرار أخطاء استبعاد شركاء الوطن، فتجاهل مكونات الأمة وفي مقدمتها المكوّن الكوردي الأصيل إنّما هو تكريسٌ وتذرعٌ للانقسام وإهدارٌ لحلم الدولة السورية الجديدة الموحدة العادلة، لا بلْ إنَّ أي عقد اجتماعي أو دستور لا يضع الكوردَ في موضعهم الطبيعي بوصفهم طرفاً رئيساً في بناء الدولة فإنَّ مآله الفشل مهما تأخر، ولا حاجة إلى إقامة الدليل - هنا - على ما صار واضحاً لكل ذي بصر وخبرة. وإنَّ تجربة العراق بعد عام 2003 شاهدة بجلاء، إذْ كان للكورد الدور الحسمُ الحاسمُ، فصياغة الدستور وترسيخ مبدأ النظام الفيدرالي وضمان حقوقهم في اللغة والثقافة والإدارة الذاتية وهو ما أسهم في استقرار الدولة على الرغم مما قد يعتريها من تعقيدات سياسية وأمنية بسبب التدخلات الدولية والإقليمية لكون العراق محلَّ أطماع هذه التدخلات، وفي سوريا كذلك، لذا فإنَّ وعي الشعب ويقظته ووضع الحلول والأجندات لمعارضة تلك التدخلات يظل ضرورة لامحيد عنها لصون التجربة والحيلولة دون تكرار الإخفاق .
وإنه لعجبٌ كل العجب أن نجد اليوم في نصوص الإعلان الدستوري السوري ما يعيد انتاج منطق الإقصاء والاستبعاد، إذْ يصرّ واضعوه على توصيف الدولة بأنها "عربية" وكأنها خلت من كل مكون قومي آخر وكأنَّ تاريخها لم يعرف تعدداً، ولا جغرافيتها وسعت غير العرب! وهو توصيف لا يقف عندحدود الهوية بل يمتد إلى بنية السلطة، حيث أُعطي رئيس الجمهورية المؤقت صلاحيات مطلقة لا تكاد تقل عن تلك التي كانت بيد الحاكم الفرد في زمن النظام السابق سوى ببريق إطراء مؤقت أو بإغراء سياسي مرحلي لا أكثر.
وليس أدلُّ على ذلك من واقع السلطة التشريعية التي ظلت مقيدة خاضعة لا تملك من أمرها شيئاً، ومواد الإعلان الدستوري بمنطوقها ومفهوما تدل عليه دلالة لا لبس فيها، فهو الحاكم الآمر الناهي الذي بيده زمام السلطة طيلة السنوات الخمس المقبلة، وكأن الثورة قامت ليعود التاريخ إلى ذاته لا ليصنع حاضراً جديداً منشوداً.
وما يضاعف العجب ويثير الاستغراب أن هذا الرئيس جاء بوهج الثورة واضطرابات فإذا به يستطيب لذة الحكم الأحادي وكأنما مُددت له ولاية خمس سنوات قابلة لأن تُمدد وربما لعقدين آخرين ومن يدري؟ فمن يتضرر إذاً من هذه المعادلة المختلة ومنْ يتحمل أوزار هذا الانحراف إلاَّ الشعب السوري الجريح الذي قدّم أغلى ما يملك في سبيل حريته وكرامته، فإذا به يعود إلى المربع الأول تحت مسميات جديدة لا تختلف في الجوهر عما مضى .
وإننا لا نملك ونحن نرى هذا المشهد يتكرر إلاّ أنْ نستحضر مرارة الشاعر الكوردي الكبير المعروف، معروف الرصافي، حين رأى العراق تحت نير الانتداب، فأنشد في قصيدة خالدة، من مطلعها :
أنا بالحكومة والسياسة أَعرَفُ ... أَأُلَامُ في تفنيدها وأُعنَّفُ؟
والباطل المستور فيه تحكمٌ ... والظاهر المكشوف فيه تَصرُّف
عَلَمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ ... كلٌّ عن المعنى الصحيح مُحرَّفُ
أسماءُ ليس لنا سوى ألفاظها ... أما معانيها فليست تُعرَفُ
من يقرأ الدستورَ يعلم أنه ... وَفقاً لصكِّ الانتدابِ مُصنَّفُ
وكأن الإعلان الدستوري السوري اليوم يكرر المشهد ذاته فيختزل الوطن ف يقومية واحدة، في خرقٍ صارخٍ لمبدأ المواطنة، وانتهاكٍ فاضح لأبسط قواعد العدالة الدستورية. فمتى كانت سوريا حكراً على قوم أو جهة؟ وكيف لدستور يدّعي الحداثة أن يتنكر لشعبٍ خاض أشرس المعارك دفاعاً عن وحدة سوريا، وقدّم آلاف الشهداء من مقاتليه ومدنييه، في مواجهة داعش، والنظام المستبد، وسائر قوى الظلم والديكتاتورية؟.
إنّه لسؤال تفرضه الدماء والتضحيات، ويطالب بإجابة لا تحتمل التأجيل، ولا تقبل التبرير.
إنَّ قيادة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وهي القوة العسكرية والسياسية التي تمثل المكوّن الكوردي وقوى أخرى شريكة قد مدَّت يدها للحكومة الانتقالية بمنْ فيهم هذه اللجنة الدستورية في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا وأثبتت قولاً وعملاً، إنّها شريك حقيقي في بناء معارضة وطنية موحدة منذ اللحظة التي سقط فيها النظام المستبد، ولقد دفعت هذه القوات ثمناً باهظاً من دماء ودموع أبنائها دفاعاً عن وحدة الأرض السورية وعن حلم شعبها بدولة عادلة حرة أبيةً تتسع لجميع مكوناتها دون تمييز أو إقصاء، أفبعد هذا العطاء السخي يكون الجزاء هو التنكر والجحود؟! وهل جزاءُ الإحسان إلاّ النكران حين يغيب العهدُ والوفاء عن القلوب والعقول؟.
وإني في هذا السياق ومن خلال هذا المنظور الواقعي الماثل أضع قاعدة لمأرَ من سبقني إليها قائلاً: "ما الفضلُ إلاّ بالإحسان، وما الإحسانُ إلاّ بالتمام" إذْ لا معنى للفضل إنْ لم يكن مقروناً بإنصاف الشريك ولا كمال الإحسان إلاّ إذا بلغ تمام العهد بالوفاء وإعطاء كل ذي حق حقه صوناً لهذا العهد وإقراراً بالجميل .
لقد كان يجب ألا يُعجل في هذا الإعلان الدستوري في ظلمات الليل أو الغرف المظلمة ، وقد كان الأولى والأجدر أنْ يُبنى على حوار وطني شامل يضمن شراكة حقيقية لكل الأطراف في مقدمتها الكورد، لا بوصفهم أقلية بل بوصفهم مكوناً ذا أرومة له لغته المعترف بها، وثقافته، وحقه في إدارة شؤونه ضمن دولة اتحادية أو لا مركزية سياسية تحمي وحدة الأرض وتضمن احترام التعدد القومي .
فإن الحقوق لا تُوهب بل تُنتزع عبر التفاوض أو النضال، لكن الكورد اليوم يقدمون اليد للسلم والأمن والسلام ويرجون أن يُعاد النظر في هذا الإعلان الدستوري، ليُضمَّن حقهم في الوجود ولغتهم الكوردية بعد اللغة العربية لغةً رسمية، كما حصل في العراق، فإن الحقوق القومية المشروعة للكورد لا تنتقص من عروبة سوريا، بل تؤكد على تعدديتها وعمقها الحضاري، ولا ينكر ذلك إلاّ العنيد الحاسد .
وأيُّ إعلان دستوري لا يتضمن هذه الضمانات يهدد بفشل المشروع الوطني ويؤسس لمرحلة جديدة من التوتر القومي، وربما التقسيم وهو ما لا يرتضيه الكورد ولا يريده أي إنسان منصف مخلص لسوريا الجديدة .
فعلى من صاغ هذا الدستور وعلى منْ أعطاهم الدستور لذلك أن يراجعوا تجارب المنطقة ويعوا دروس التاريخ قبل أنْ يقعوا في المحظور، فالإقصاء يقود إلى الانفصال عاجلاً أم آجلاً، والاعتراف يفضي إلى الشراكة والاستقرار لا محالة، وإنَّ إعلاناً دستورياً يعترف بالشعب الكوردي ويضمن حقوقه سيكون حجر الأساس لسوريا ديمقراطية اتحادية عادلة.
فلْتكنْ سوريا الجديدة كالعراق الجديد في الاعتراف بالكورد، بل ولْتفُقْه في ضمان الحقوق وصيانة الحريات وإلاّ فالفرص تضيع والعواقب وخيمة لا قدر الله و أعاذنا الله من ذلك .
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً