كانت جميلة جداً اللقاءات التي حصلت خلال الأيام الماضية بين القيادة السياسية الحاكمة في إقليم كوردستان وبين وزير الخارجية السورية الجديد أسعد الشيباني، إستقباله من قبل رئيس الإقليم "نيجيرفان بارزاني" في قمة ميونخ الأمنية دليل على قبول ما أفرزتها الثورة السورية من قيادات والتعامل معها، وهو بحد ذاته اختراق للتجمد السياسي العراقي القلق تجاه تغيرات سوريا وتميّز الرؤية الكوردية عنه.
السيد نيجيرفان بارزاني هو شخصية دبلوماسية جامعة، قادرة على التعامل مع الأضداد، وقادة كوردستان عندما يتحدثون مع الآخرين عن القضايا المماثلة لهم فإنهم يتحدثون من منطلق التجربة، تجربة تعود بداياتها إلى أربعينيات القرن الماضي لحد الآن صفحاتها لم تنته، وهذه التجربة تقول إنّ السلام هو الطريق، رسالة السلام تنطلق من تجربة أثبتت خلال العقود الماضية التي شهدت جميع أنواع النضال أن علاج هذه المشاكل التي تلفّ المنطقة لا يمكن أن يكون إلا عبر أطر سلمية، تجمع الفرقاء الذين يتحركون على الساحة.
وهذا الإطار إذا أريد له أن يكون جامعاً لابدّ أن يستوعب جميع الأطياف، وجميع الشرائح، وجميع القوميات والأديان والمذاهب على قدم المساواة بين أبناء الشعب، بناءً على قيمتي العدالة والمساواة اللّتين تتكاملان مع قيمة الحرية، وهي القيم التي نصّ عليها الشارع أو الدين الحنيف وكذلك المعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق.
إن التحركات السلبية القولية والفعلية من قبل ما يسمى بالأقليات "وهو تعبير غربي" أو المكونات "التعبير الأنسب لتوصيف التنوع المجتمعي" الصغيرة منها والكبيرة في دولنا ضد المكون الحاكم، سببها عائد إلى الشعور بالظلم والحرمان، فالإحساس بالظلم وهضم الحقوق هو الذي يدفع بتلك المكونات أن يتحركوا للمطالبة بحقوقهم، في حين إن الدول التي ليس فيها هذا التمايز أو الظلم فيها حرام إرتكابه بين مكونات الشعب الواحد، لا نشهد هذه التحركات العرقية والدينية، ليس في الدول المتقدمة فقط، بل في داخل الشعوب العربية وكذلك الإسلامية التي فيها أكثر من مكون واحد إثني أو ديني مذهبي، تجدهم يتمتعون بإستقرار مقنِع وتعايش الأحباب، لأن الجميع يعيشون على قدم المساواة ولا يُظلمون، لهذا لا تجد فيها أي حركة بالضدّ من السلطات، أو تعمّد تعكير الأمن والاستقرار.
في سوريا وبعد أن ذهب النظام البعثي وسقط عقب حكم البلد أكثر من خمسة عقود بالحديد والنار وإذابة الأجساد البشرية، مع أنه كان ظالماً، لكن لم يكن عادلاً في تقسيم الظلم، فهناك مكونات تعرضت للظلم أكثر من الأخريات، المكون الكوردي داخل الشعب السوري مسه ما مسّ الآخرين من إخوانه وأخواته وزيادة عليهم، كان الظلم يدوم من الجد إلى الأحفاد بالتوريث، تعرض للظلم بما لا يقبله من يملك من الحسّ قدراً ضئيلاً، وصل إلى حد الحرمان من الاعتراف بأنه مواطن أو أنه شخص من الذين يتكون منهم الشعب السوري، فحرموا حتى من البطاقة الوطنية ولا بأي وثيقة تثبت بأنهم سوريون. حرموا من الحقوق القانونية وما تُوفِرُها من التوظيف أو السفر أو أي شيء آخر من حقوق المواطنة، بالإضافة إلى منعهم من تعلم اللغة ونكران القومية، ملايين من هؤلاء لم تعترف بهم الدولة بأنهم كورد، كانوا يسجلون في بطاقاتهم التعرفية بأنهم من عرق آخر، بمعنى أن الظلم لم يكن على خطّ واحد، صحيح إنّ الجميع ظلموا بحكم انهم سوريون لكن هنالك من ظلم أكثر وهنالك من ظلم أقل.
بالتالي فلا بدّ من إعادة التوازن ورفع المظالم وفقاً للميزان الصحيح المقبول ديناً وعقلاً وقانوناً لإعادة الحق إلى هؤلاء، هكذا يكون السلام وهذه هي الرسالة التي تريد أن توصلها القيادات الكوردية التي أثبتت لديهم بالتجارب لعقود بأن الحل لابد أن يكون عبر الحوار والتفاوض، وعبر التواصل الأخوي كفريق واحد وليس كفريقين متخاصمين، وإنما التفكير جماعياً بما يخدم مصلحة البلد. وخلافاً لذلك لن يتجسد الخطاب الذي يتنباه مسؤولوا سوريا الجديدة ولن تتحق الأمنيات التي ترددها الألسن وتتمناها النفوس.
دعوة السلام هذه لابدّ أن تقوم وأن تراعي جملة من المبادئ التي من خلالها يمكن أن يكون الانطلاق، وهي كالتالي:
أولاً - عدم النظر إلى الملف الحقوقي الكوردي على أساس أنه ملف للإرهاب والتعامل معه على أساسه، فالفرق كبير بين المطالب بالحقوق الفطرية التي تأتي مع خلق الإنسان، وبين من الباغي على القانون ومؤسسات الدولة الشرعية، خاصة في الدول التي تمنع طرق الطلب السلمية.
ثانياً - عدم التعامل مع الحالة الكوردية على أنها حالة أمنية، إن الذين يرمون أنفسهم في الأذى والهلاك ليسوا كارهين للحياة الطبيعية الهادئة، وليسوا مولعين بتحمل الأذى ولا بإلحاقه بالآخرين، هم بشر أسوياء لا يختلفون عن غيرهم في البحث عن التمتع بالحياة والرغبة بها، حركاتهم قائمة على مبادئ أقرّها الدين والقانون، كل ما هنالك إنهم يبحثون عن المساواة في الحياة مع شركائهم في الوطن، ولابدّ من النظر الى قضيتهم من منظار حقوقي لأن الاقتصار على البعد الأمني يبعد التوصل الى حلّ وتفاهم.
ثالثاً - عدم حصر الحقوق في الحقوق الثقافية أو الإنسانية الإغاثية المجرّدة، بل لابد من إضافة الحقوق السياسية والإدارية كذلك، لأن إدارة الحياة وأنظمتها تتطور بمرور الزمن، وتختلف من مجتمع إلى آخر، وعليه وإعتماداً على القيم السياسية الثابتة ينبغي ابتكار أو الإلتزام بالنظم الإدارية المعروفة على المستوى الدولي، والمجرّبة وأثبتت أنها ناجحة في حماية الوحدة والسيادة الوطنية، التنوع في إطار الوحدة.
رابعاً - إن المطالبة بهذه الحقوق ليست وليدة حركات يسارية وإيديولوجية من مخلفات مشاكسات الإتحاد السوفييتي السابق، وإنما هي حقوق تتعلق بالإنسان من حيث هو كائن يتمتع بما يميّزها عن الكائنات الآخرى، هي حقوق من المنظور الديني والإنساني، ومن المنظور القانوني الدولي، الطلب أو المطالبة بها قديمة قِدَمَ نشوء هذه المشاكل، وكثير من قادتها هم من أهل العلوم الشرعية الإسلامية، كان الحس الديني يدفعهم نحو المطالبة بها، وكثير من قادتها التاريخيين من أهل العمائم، كالشيخ سعيد پيران والقاضي محمد والشيخ عبد السلام بارزاني.
على هذه الأسس، وإستناداً إلى القيم الأساسية الموجِهة، في تأسيس نظام يجد فيه الجميع نفسه يأتي الإستقرار، ويكون النظام جديداً وتكون الثورة حقيقية تستأصل جذور نظام سقط لأن مقومات البقاء والقيام لديه كان معدوماً. هي دعوة من أجل السَّلام، سلام داخلي، وسلام مع الجيران.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً