الانقلاب الابيض

17-07-2024
محمد زنكنة
A+ A-

ستة وخمسون عاما مرت على انقلاب غير البوصلة السياسية للعراق وقلب خارطتها راسا على عقب ووضعها في مصاف اكثر الدول تعاسة في العالم وبسببه عاش العراق اكثر المراحل جرما ودموية افقدت الدولة ثروات نقدر بالمليارات وصنعت اكبر واوسع هوة وفجوة بين مكونات المجتمع وشكلت السلطة التي تاسست في ظلها تهديدا صريحا على العراق وجيرانه ودول المنطقة والعالم من خلال تهديدات وشعارات مازالت تتردد من قبل مراهقي السياسة، نتحدث اليوم عن انقلاب البعث في مثل هذا اليوم من عام 1968 بقيادة احمد حسن البكر وصدام حسين والذي انهى حكم عبدالرحمن عارف واصبح البعث متفردا بالسلطة الى يوم التاسع من نيسان لعام 2003.

وفي ذلك الوقت اطلق على هذه الحركة اسم الانقلاب الابيض لان من قادها لم ينفذوا حكم الاعدام بحق عارف واكتفوا بنفيه الى خارج العراق على عكس ماحصل مع العائلة المالكة وعبدالكريم قاسم الا ان هذه الحالة كانت مؤقتة ولم تشمل بعض اقطاب الحكم العارفي ومنهم رئيسي الوزراء طاهر يحيى وعبدالرحمن البزاز حيث تعرضا لابشع انواع التعذيب الجسدي والنفسي مما ادت الى وفاة الاول في ذات العام ووفاة البزاز في عام 1973 ، وكان لقادة الانقلاب راي اخر مع شركائهم ليتحول الى واقع بعد اقل من اسبوعين باقصاء عبدالرزاق النايف اول من شكل الحكومة بامر من ذات الحزب قائد الانقلاب وانتهى به المطاف مقتولا في لندن في عام 1979.

ولم تتوقف التصفيات عند هذا الحد، بل طالت العديد من الضباط والمسؤولين السياسيين والعسكريين واشهرهم حردان التكريتي والذي اغتيل في الكويت في عام 1971، وبعد عامين من هذه الحادثة حاول ناظم كزار مدير الامن العام في تلك الفترة اغتيال البكر وصدام في مطار المثنى الدولي في خطة قيل بانها دبرت من صدام حسين بالاتفاق مع كزار لاغتيال البكر لكن كزار اراد ان يضرب عصفورين بحجر ويغتال الرجلين، وبعد ان كشف المخطط اطلق كزار النار على وزير الدفاع حماد شهاب وارداه قتيلا وكرر الفعلة مع وزير الداخلية سعدون غيدان لكن القدر نجاه وبقي يعاني من اثار جراحه حتى وفاته في عام 1985، وانتهت حياة ناظم في القصر الذي خصصه لتصفية خصوم الانقلاب ،القصر الذي عرف باسم قصر النهاية.

هذه كانت حصيلة تقريبية وسريعة لخمسة اعوام من عمر الانقلاب ولم نتحدث هنا عن محاولة اغتيال القائد الخالد مصطفى بارزاني في مقره بحاج عمران في عام 1971 عن طريق رجال دين فخخت ثيابهم باستغلال حسن المعاملة التي امر بها البارزاني لرجال الدين، ومحاولتين لاغتيال الشهيد ادريس بارزاني واكثر من محاولة لاغتيال الرئيس مسعود بارزاني والعديد من قيادات الحزب الديمقراطي والاحزاب السياسية الكوردستانية والعراقية الاخرى من يساريين ويمينيين، بل شملت هذه التصفيات كل من خالف البعث من كل التيارات عن طريق الاغتيال المباشر او التسميم او محاولات التفخيخ او افتعال حوادث السير وماشابه.

لقد اغتال قادة (الانقلاب الابيض) اكثر ثلاثة وزراء ساهموا في رفع اسم العراق في المحافل الدولية وهم عدنان الحمداني الملقب بالعقل الالكتروني للعراق ومحمد محجوب صاحب مشروع انهاء الامية ومرتضى عبدالباقي الحديثي والذي يعود له الفضل في القرار المسمى بتاميم النفط، ومن منا ينسى ماحصل في قاعة الخلد ممن عاصروا هذه الحقبة ومن شاهدها عبر شرائط الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي من تصفية لقيادة كاملة للحزب بحجة التواطؤ مع البعث السوري ولن تفي اية مقالة او بحث او حتى كتب للحديث عن قساوة ماحصل في ذلك اليوم في الثاني والعشرين من تموز لعام 1979 ذلك اليوم الذي كرس السلطة بيد صدام بعد اجبار البكر على التنحي وتصفية خصومه ومعارضيه وافشال مخطط الوحدة العراقية السورية والاصرار على المواجهة العسكرية مع ايران.

تسبب (الانقلاب الابيض) باطول الحروب في العالم في القرن العشرين نتج عنها مقتل اكثر من مليون شخص، كما قادت الاجهزة القمعية لهذا الانقلاب اشرس حملات لابادات جماعية ضد الكورد بالاسلحة المحرمة دوليا وبدفن الالاف احياء في صحاري جنوب وغرب العراق وبقاء مصير الالاف منهم مجهولا، بالاضافة الى ماحصل في اهوار الجنوب والدجيل واغتيال واعدام شخصيات سياسية شيعية وسنية وكوردية ونفي الالاف الى خارج العراق وحرمانهم من حق المواطنة والتعامل معهم باساليب فاقت حد التوقع البشري ليصل الغرور بمن كان يحكم العراق الى غزو الكويت وافتعال حرب دموية اخرى فرضت حصارا اقتصاديا استمر الى سقوط نظامه الحاكم.

كل ماذكر كان بمثابة المراجعة السريعة لجزء يسير جداً من الاحداث التي تبعت ماسمي بـ(الانقلاب الابيض) في داخل العراق، ومن مساوىء الطالع العراقي ان ماحصل لم يقتصر تاثيره على الوضع الداخلي فقط، حيث تنازل النظام السابق عن جزء من ارض العراق للخصم اللدود ايران وفتح الابواب امام مسلحي الـPKK للتوغل داخل الاراضي العراقي وسمح  للجيش التركي بالدخول للاراضي العراقية لمحاربتهم، وتسببت سياسات هذا الانقلاب بعلاقات شابها التوتر مع الدول العربية في ظل سباق الزعامات الذي خلفه غياب الرئيس المصري الاسبق جمال عبدالناصر بين البعثين العراقي والسوري ونظامي بومدين والقذافي، فكل منهم كان يفكر في الاستيلاء على المحيط العربي والسيطرة على موارده وفرض سيطرته السياسية والعسكرية بالقوة على الرغم من فشل كل محاولات الوحدة خلال اكثر من ثلاثين عاماً بدءا بالوحدة بين مصر وسوريا مروراً بالقضاء على ميثاق الوحدة بين بغداد ودمشق قبل حتى ان تولد وانتهاء بالمحاولة اليائسة لتأسيس ماسمي بمجلس التعاون العربي حيث لم يعش الا لايام معدودة وظل حبراً على ورق.

ان هذا (الانقلاب الابيض) لم يكن الا محاولة لافراغ شحنات من العلل النفسية والشعور بالنقص تجاه كل من كان يحظى بشعبية وتقدير واحترام على المستوى الشعبي والسياسي والعسكري والديني والاجتماعي وهل من منكر للتصرفات التي حصلت مع عالم الاجتماع الكبير علي الوردي وشاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وعالم الفيزياء العراقي عبدالجبار عبدالله وعدد كبير من الفنانين والرياضيين واصحاب القلم والراي بغض النظر عن انتماءاتهم وافكارهم السياسية؟

ولم يسلم حتى المقربون والمخلصون للحزب وللانقلاب الذي كان يسمى بالثورة من هذه التصفيات بدءاً من النايف الآنف الذكر وصولاً الى صادق مهدي عماش وقائد الانقلاب شخصياً، الرئيس الاسبق احمد حسن البكر والذي اجبر على الاستقالة وفرضت عليه الاقامة الجبرية وأجبر ايضاً على السكوت عن حادث تصفية ابنه محمد.
فان تباهى كتاب التاريخ السياسي في العراق بالحديث عن هذه الحقبة باتفاقية الحادي عشر من اذار لعام 1970 والتي نقضت بعد اربعة اعوام، وماسمي بتاميم النفط ومحو الامية وحملات الاعمار في محاولة منهم لتشويه وتدليس الحقائق لكنهم لن يستطيعوا خداع من عايش تلك الفترة، الاف من الشهداء والرايات واللافتاء السوداء في بيوت العراقيين والالاف من العقول النيرة التي ضاعت بين الحروب والمنافي ومليارات من الدولارات ذهبت سدى لتسديد ديون مغامرات قادة (الانقلاب الابيض) كان الشعب اولى بها وحروب وصراعات داخلية لم يسلم منها حتى قادة الانقلاب واعضاء ماعرف باسم مجلس قيادة الثورة.

ومايعيشه العراق اليوم ليس الا نتاجا لتاثيرات هذه الحقبة التي استمرت لاربعة وثلاثين عاما خلفت دولة هشة لايستطيع المواطن فيها السفر الى محيطه الاقليمي والعالمي وحتى العربي الا بشروط تعجيزية (تتوفر بكل سهولة لمن يزكى من اصحاب سلطة اليوم)، هذه الحقبة خلفت بلدا فيه الملايين تحت خط الفقر ونازحين لايستطيعون العودة الى مدنهم وقراهم وازمات وانسدادات سياسية لاتعالج الى بفلاتر اقليمية ودولية مع تجاهل وتغييب الحلول الوطنية.

اذن.. كان انقلابا سمي بالابيض من قبل منفذيه وانقلب بغيمة سوداء ظلت جاثمة على صدور العراقيين لتظل تاثيراتها وكوابيسها تلاحق الاجيال التي تلت هذه المرحلة المظلمة، باختصار لم يتعاف العراق من تبعات هذا الانقلاب ولن تكون الحلول سهلة في ظل المعطيات التي تلت هذه الفترة ولايمكن الخروج من العقد السياسية والاجتماعية والنفسية لما يعيشه العراق اليوم دون اخذ العبرة من هذه التجربة المرة، ومن كان يعارض هذا الكلام والشرح المبسط، فليثبت عكس هذا الكلام.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

طلال محمد

لقاء أردوغان بحزب الشعوب الديمقراطي: هل تقترب تركيا من سلام تاريخي؟

في لحظة سياسية لافتة، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم الخميس 10 نيسان 2025، بوفد من حزب "المساواة والديمقراطية للشعوب" (DEM) في المجمع الرئاسي بأنقرة، في أول اجتماع علني من هذا النوع منذ أكثر من 13 عاماً.