في التاريخ السوري الحديث لا يمكن طي صفحة أهلنا الدروز في جنوبي البلاد بأي شكل، فتاريخ المقاومة السورية ضد المحتل الفرنسي ناصع، وكتب هذا التاريخ بأصابع الذهب سلطان باشا الأطرش، وسيبقى هذا الاسم مادامت سوريا.
في محاولة فتح أوراق كتاب الثورة السورية التي اندلعت منذ أربعة عشر عاماً، حافظت السويداء على مسك العصا من المنتصف، ولم تنخرط بشكل مباشر في الثورة بفضل القيادة الدينية الصلبة التي يقودها الشيخ حكمت الهجري، وبالمقابل لم يزج الشباب الدرزي في أتون الحرب السورية، ونجحت القيادات الدينية في تهريب أبنائها إلى خارج حدود الخطر الماحق، وكسبت بذلك خمود بكاء الأمهات على موت فلذات أكبادهن.
قبل أيام، وبالتفاتة مريبة، تلاقى الصوت الديني من مشيخة العقل في السويداء، مع الطلب الإسرائيلي من الدروز بفتح الحدود أمامهم، وببعث رسائل التهديد المباشر والعلني للحكومة السورية الجديدة من مغبّة التقرب من الدروز، وفيما بعد تطوّرت لغة التّهديد إلى عدم قبول إسرائيل بالتواجد العسكري في ثلاث محافظات (درعا - السويداء - القنيطرة).
مؤخراً، اجتاز وفدٌ دينيٌّ مكوّن من مئة رجل دين الشريط الحدودي باتجاه مرتفعات الجولان بحافلات، وبحماية تامة من الجيش الإسرائيلي (المحتل) وذلك وسط ذهول السوريين في أول زيارة منذ نحو خمسين عاماً، لزيارة مقام النبي شعيب، ولقاء الزعيم الروحي لطائفة الدروز موفق طريف، وكان الزعيم الروحي حكمت الهجري قد صرّح بألفاظ لافتة، ومسيئة ضد الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، وقد حمل كلامه التصعيد الكبير والغريب، والأقرب للاستهجان من طرف قطاعات واسعة من السوريين.
هذا الشخص نفسه الذي زارته الكثير من الفعاليات الاجتماعية والسياسية، ومن ضمنها وفود سياسية من الحركة الكوردية في سوريا، والمجلس الوطني الكوردي، كانت الانطباعات وقتئذ إيجابية، لكن هذه الزيارة قد حملت رسائل عديدة، وضعت التكوينات الثقافية والإعلامية والتي تتحصن بسوريا الأرض والانتماء الكامل بالحيرة والارتباك.
الرسالة الأولى هي التحدي الواضح للسلطة القائمة، ومحاولة تقزيم دورها، وهذا ما تمّ في فترات سابقة ضمن الثلاثة أشهر المنصرمة منذ سقوط نظام الأسد الهارب، وظهر هذا التحدّي حينما منعت قوات خاصة بأمن المنطقة الجنوبية من دخول قطعات من الجيش التابع للأمن العام، وأجبرتها على الخروج من كل المحافظة، والمريب والغريب أن هذه القوات قد أذعنت لإرادة تلك الميليشيات، وعادت إلى مراكزها في دمشق وغيرها دون رد حاسم، أو ردّ قعل عنيف من السلطات العسكرية المتمثلة في وارة الدفاع السورية.
الرسالة الثانية إلى السوريين، وتتمحور حول لا شرعية الحكم الحالي، وتفضيل (العدو الإسرائيلي) عليه، دون أن تتعرض هذه المنطقة لأيّ اعتداء مباشر أو غير مباشر كما يجري الآن من عدة أيام في الساحل السوري حيث قتل من عناصر الأمن، ومن المدنيين بالمئات، وحدثت مذابح ومجازر بحق المدنيين العُزّل في معركة استعادة الأمن في معقل النظام السابق، وتوريط الطائفة العلوية من خلال تواجد بقايا فلول النظام في المنطقة.
الرسالة الثالثة إلى جمهور ساحة الكرامة والذي كانت له بصمته منذ انتظام التظاهرات شبه اليومية في أيلول عام 2023 وحتى وقت قريب، وقد اندلعت موجة الاحتجاجات وقتها لأسباب معيشية عقب رفع سعر المحروقات.
لقد استمرت الاحتجاجات في ساحة الكرامة، وتعاطفت أوساط سورية وحتى دولية معها، وهي حتى الآن مستمرة بزخم أقل، وقبل يوم تم إنزال العلم السوري من الساحة، ولكن مع الزيارة الأخيرة للوفد الديني الدرزي ستفقد تلك الأصوات الصادحة الكثير من بريقها، وقوتها وحتى وطنيتها.
وبعد.. هل استفاد الوفد الديني من زيارة إسرائيل، وفي هذا التوقيت العصيب من تاريخ سوريا؟ لعل أكثر المنتصرين هو نتنياهو الذي سيعزّز موقعه السياسي باستمالة دروز إسرائيل الى حزبه، والخاسر الأكبر هي سوريا من جميع جهاتها.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً