عنونت المقال بأحداث الشرق الأوسط بدلاً من الحرب على غزة والتي هي المؤثر الأول فيما يجري من تغيرات سياسية ومناوشات عسكرية خارج الأراضي الفلسطينية، لأن فواعل أخرى غيرها لها حضور واضح على رسم السياسة في العراق وتحديد إتجاهاتها، ليست كلها من مسببات الحرب على غزة، وإنّما قسم منها يعود إلى ما قبلها وآخر منها يعود إلى عقود ومنها استحدثتها الحرب على غزة، ومنها ما إشتد أوارها.
الركيزة الأساسية أو تلك التي تتقاذفها الأفواه وترميها الأقلام على أوراق الصحف والمجلات، هي الوجود العسكري الدولي – برئاسة أميركية – على الأرض العراقية، والهجوم الكلامي من أجل إنسحابها أو دفعها إلى المغادرة من باب "تفضل من غير مطرود"، غايتنا هنا هي المناقشة الهادئة البعيدة عن ردود الفعل بخصوص السجال الجاري بين الأحزاب والفصائل المسلحة والحكومة والبرلمان، لفرض واقع انسحاب هذه القوات الى خارج الأراضي العراقية.
والنقاش دائما يبدأ بالعودة إلى البرلمان لإجبار الحكومة على اتخاذ خطوة طرد هذه القوات بحجة إنتفاء الحاجة الى وجودها، لكن يبدو للملاحِظ أن مجرد العودة إلى البرلمان هو يعني ان لا إرادة حقيقية لإنسحابها لأسباب التالية:-
1- ينبغي التفريق بين المعاهدات الدولية التي تحتاج إلى التصويت البرلماني وحالة هذه القوات التي جاءت بدعوة من الحكومة لغايات محددة، فهذه القوات جاءت في حزيران عام 2014 بدعوة وتفاهم بين الأميركيين والخارجية العراقية في إطار التحالف الدولي المناهض للإرهاب، الاتفاق ثنائي بين الطرفين دون التصويت من البرلمان، لأنها ليست معاهدة دولية مفتوحة المدى الزمني بين العراق والولايات المتحدة الأميركية، والإتفاق الموقع يقضي بإخطار احد الطرفين الطرف الثاني في حال الرغبة بإنهاء العمل به، ويدخل حيّز التنفيذ في حدود سنة واحدة، أي أن بقاء وعدم بقاء القوات الدولية ومنها الأميركية من إختصاص الحكومة عبر وزارة الخارجية وليس من مهام البرلمان، تكفي ورقة واحدة من رئيس الوزراء ترسل الى السفارة الأميركية لإنهاء وجودهم في العراق. ثم إن البرلمان قد أصدر قراراً للحكومة بإنسحاب القوات الأجنبية من العراق عقب إغتيال قاسم سليماني في 7 / 1 / 2020 فلا داعي لقرار جديد.
2- ان رئيس الوزراء هو مرشح الإطار التنسيقي، وللإطار إجتماعات دورية، وإستثنائية، وإن الأصوات المنادية هي من داخل الإطار، فلماذا لا يدفع الإطار مرشحه في رئاسة الحكومة لإتخاذ تلك الخطوة؟، هذا يعني أنهم لا يريدون وغير مقتنعين على الأقل في الوقت الرّاهن، والإنقسام الموجود بين مكونات الإطار أو ما يجري في العلن يقول ذلك، وغياب العشرات من برلمانييهم دليل إثبات، سابقاً كانت التظاهرات تخرج صوب السفارة الأميركية في أحوال مماثلة، أما الآن فحتى هذه التظاهرات إختفت.
3- إن العودة إلى البرلمان مع أن الصلاحية موجودة لدى الحكومة، تعني فيما تعني تجنب القوى الشيعية الإطارية المواجهة السياسية مع الأميركيين، ورمي الكرة أمام البرلمان لسحب القوى السنية العربية والكوردية للمواجهة وهم لا يريدون ذلك، لأن التجرية الماضية مُرّة حينما انفردت الفصائل المسلحة بالمنطقة السنية وكذلك مع الكيان السياسي الكوردي عقب مغادرة الأميركيين في عام 2011، ومن جانب آخر أن العديد من القوى الشيعية التي مارست السلطة مباشرة وتمارسها الآن غير مباشر لا تريد إنفراد إيران بها، وأن تضطر الوقوع تحت اليد الإيرانية القابضة مرة أخرى، فالوجود الأميركي يشكل ذريعة حرية التصرف تجاه الإيرانيين ولو حرية نسبية.
4- ان القوى الشيعية بعد الانتخابات البرلمانية التي جاءت بالسوداني إلى الحكم، تسببت في تشوش كبير داخل الساحة السياسية والإجتماعية في عموم العراق، وحاصرت مرات ومرات السفارة الأميركية، وكان ذلك من أجل حيازة السلطة، أما الآن وقد حصلت، فكيف تفوت السلطة من يدها مدفوعةً بشعار مغادرة القوات الأجنبية؟ وإن لم تفلت السلطة من يدها فقد تضعف الحكومة وتفشل كسابقاتها عبر خنقها وضرب قيمة الدينار العراقي من وزارة الخزانة الأميركية، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لا أظن بأن خيال القوى التي تقول بمغادرة هذه القوات لم يصل إلى إحتمالية ضياع السلطة والدولة كلها من يدهم، وتكرار تجربة 2003 مرة أخرى، لا سيما أنهم كثيراً ما يلوحون بإنقلاب سني بدعم أميركي.
5- إذا بغينا الذهاب إلى أبعد من ذلك، ودخلنا عقل هؤلاء، وما يقولونه إن داعش هي صنيعة أميركية، إذا كانوا مقتنعين، فبالتالي ألا يخافون من العمل الأميركي على إعادتها أو شبيه لها حالَ إجبار القوات على المغادرة؟ وأي الحالين أولى بالاختيار والتحمل، بقاء القوات الأجنبية أو مغادرتها وعودة العمليات الإرهابية حسب قناعاتهم الأولية؟
6- ومن باب التعامل الشخصي ونجاح تجربته أيضاً فلن يدخل رئيس الحكومة في مواجهة مع الأميركيين ويطلب منهم المغادرة، خصوصاً أنّ وجود وعدم وجود هذه القوات شأن وطني وليس جهوي، الأميركيون يضطرّون أحياناً لإحتلال دولة ما من أجل التواجد فيها إذا استوجبت المصلحة الستراتيجية ذلك، فكيف بالانسحاب وهي موجودة مسبقاً؟
النظرة التحليلية التي تتعمق إلى داخل العقل الإطاري الحاكم لا ترى قناعة وجدية في إنسحاب هذه القوات، والنبرة تدل على ذلك، كأنهم في سباق هادئ مع القوى الوطنية الأخرى حول تجنب المواجهة مع الأميركيين حتى لو كانت المسألة متعلقة بالسيادة، أو تلك الأقرب إلى القلب، وهي الإنحطاط الإنساني العالمي في صورة تمزّق القيمة الإنسانية وتهاوي مزاعم الحقوق العامة على أرض غزّة..تجاه كل ذلك إنّ الإحتفاظ بالسلطة أولى.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً