يرتبط مستقبل الكورد في سوريا بشكل وثيق بتفاعلات القوى الإقليمية والدولية، مما يجعل مصيرهم السياسي غير واضح المعالم. ولقد أدى سقوط نظام بشار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة في دمشق إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري، حيث تبنّت القيادة الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، سياسة تعزيز سلطة الدولة المركزية، مطالبةً جميع الفصائل المسلحة، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية، إما بتسليم أسلحتها أو الاندماج في الجيش السوري الوطني.
يمثل هذا الموقف تحدياً كبيراً للاستقلال الإداري الفعلي الذي حظي به الكورد في شمال سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية. فقد تمكنوا من إدارة منطقة روجافا بشكل شبه مستقل، مؤسسين كيانات حكومية خاصة بهم، بما في ذلك نظام تعليمي وإدارة محلية وقوات أمنية. إلا أن الحكومة السورية الجديدة تصرّ على استعادة السيطرة الكاملة، مما يقلّص احتمالات الحفاظ على هذا الحكم الذاتي. مع ذلك، قد يتمكن الكورد من التفاوض للحصول على بعض الحقوق الثقافية والسياسية، إلا أن سيطرتهم العسكرية والأمنية ستظل موضع تهديد خطير.
من جانبها، تؤيد كلٌّ من روسيا وإيران بقاء سوريا موحدة، وترفضان أي شكل من أشكال الاستقلال الكوردي، إذ تعتبران أن منح الكورد حُكماً ذاتياً قد يشجع النزعات الاستقلالية داخل إيران وتركيا، حيث توجد مجموعات كوردية كبيرة. في الماضي، حاولت روسيا التوسط بين الكورد والنظام السوري، لكنها أصبحت الآن أكثر ميلاً إلى دعم الحكومة السورية الجديدة لضمان الاستقرار السياسي. أما إيران، فتعتبر أن إقامة كيان كوردي مستقل سيؤدي إلى تعزيز التطلعات الاستقلالية للكورد في ايران، مما يدفعها إلى دعم سياسات إضعاف النفوذ الكوردي في سوريا.
من ناحية أخرى، لا يزال الموقف الأميركي ضبابياً، حيث كانت الولايات المتحدة الداعم الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم داعش، لكن التغيرات في الستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط تشير إلى تراجع الالتزام طويل الأمد بحماية الكورد. رغم أن واشنطن زوّدت الكورد بمساعدات عسكرية وسياسية، إلا أنها لم تتخذ موقفاً حاسماً ضد تركيا، مما يجعل الكورد في وضع سياسي هش دون ضمانات دولية واضحة لاستمرار الحكم الذاتي.
أما تركيا، فتظل القوة الأكثر رفضاً للحكم الذاتي الكوردي في سوريا، إذ ترى في قوات سوريا الديمقراطية امتداداً لحزب العمال الكوردستاني، المصنف لديها كمنظمة إرهابية. على مدار السنوات الماضية، شنت أنقرة عدة عمليات عسكرية داخل سوريا، من بينها عملية "غصن الزيتون" عام 2018، و"نبع السلام" عام 2019، و"فجر الحرية" عام 2024، وأسفرت الأخيرة عن خسائر إقليمية كبيرة للكورد، ما أدى إلى تراجع نفوذهم العسكري والسياسي. ومع وصول قيادة سنية إلى الحكم في دمشق، أصبح لتركيا مجال أوسع للتدخل، خاصة بعد أن زالت العوائق السياسية التي فرضتها عداوة أنقرة مع نظام الأسد سابقاً. في ظل هذا التحول، يبدو أن الهدف التركي الرئيسي هو القضاء على النفوذ العسكري الكوردي على حدودها الجنوبية، مع احتمال توسيع سيطرتها العسكرية في الشمال السوري، مما قد يؤدي إلى إضعاف الكورد سياسياً وعسكرياً ودفعهم إلى التنازل عن مطالبهم بالحكم الذاتي.
يُشكِّل العراق، إلى جانب الأحزاب الكوردية في إقليم كوردستان العراق، لاعباً آخر في معادلة الصراع الكوردي في سوريا. لا تدعم الحكومة العراقية في بغداد إقامة منطقة كوردية مستقلة أو شبه مستقلة في سوريا، حيث تخشى أن يؤدي ذلك إلى تشجيع التوجهات الاستقلالية لدى الكورد في العراق، خصوصاً في ظل التجربة السابقة لاستفتاء الاستقلال عام 2017، الذي أدى إلى أزمة سياسية كبيرة بين أربيل وبغداد. كما أن الحزبين الكورديين الرئيسين في إقليم كوردستان العراق، الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، يتبنيان مواقف متباينة حيال القضية الكوردية السورية. فالحزب الديمقراطي الكوردستاني يتخذ موقفاً متشككاً تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي يقود الإدارة الذاتية في روجافا، بسبب علاقاته الوثيقة بحزب العمال الكوردستاني. على النقيض، فإن الاتحاد الوطني الكوردستاني، الذي يتمتع بعلاقات أقوى مع إيران، أكثر انفتاحاً على دعم الكورد السوريين، لكنه يحرص في الوقت نفسه على عدم إثارة غضب طهران أو بغداد. هذا الانقسام بين الأحزاب الكوردية في العراق أدى إلى إضعاف الموقف الكوردي الموحد، مما زاد من صعوبة حصول كورد سوريا على دعم إقليمي قوي لمطالبهم بالحكم الذاتي.
في حال فشل الكورد في الحفاظ على استقلاليتهم الإدارية، فإن ميزان القوى الإقليمي سيميل لصالح تركيا والنظام السوري الجديد، مما قد يؤدي إلى تفكك قوات سوريا الديمقراطية، بحيث ينضم بعض عناصرها إلى الجيش السوري، بينما قد تلجأ فصائل أخرى إلى العمل المسلح والمقاومة. وفي المقابل، ستعزز تركيا نفوذها العسكري في الشمال السوري، بينما ستستفيد روسيا وإيران من هذا التحول لضمان إبقاء سوريا تحت سيطرة الدولة المركزية، ومنع أي مشروع كوردي مستقل. ومع تراجع الدعم الأميركي، يواجه الكورد خطر أن يصبحوا معزولين سياسياً وعسكرياً، مما يجعلهم عرضة للهجمات من كل من الجيش التركي والقوات السورية الحكومية.
ومع ذلك، لايزال أمام الكورد خيار التفاوض للحصول على نظام حكم لا مركزي يسمح لهم بالاحتفاظ بقدر من الاستقلال الثقافي والإداري، لكن دون قوات مسلحة خاصة بهم. هذا السيناريو قد يكون الأكثر واقعية على الرغم من انه يشكل خسارة للكورد مقارنة بطموحاتهم المشروعة من جهة وما تم تحقيقه على الأرض خلال السنوات الماضية من جهة أخرى، الا أنه سيتيح لهم الحفاظ على هويتهم القومية دون الدخول في صدام مع الحكومة السورية الجديدة، ومع ذلك فأن تحقيقه يعتمد على التدخلات الدولية والوساطات الدبلوماسية، التي لاتزال غير مضمونة.
على المدى الطويل، يبدو أن القضية الكوردية في سوريا ستظل نقطة توتر رئيسة في الشرق الأوسط. إذا استمرت الانقسامات داخل الأحزاب الكوردية، وظل الكورد يفتقرون إلى حليف دولي ثابت، فإنهم سيجدون صعوبة في مواجهة الضغوط المتزايدة من تركيا وسوريا والعراق. وفي ظل غياب ستراتيجية كوردية موحدة، قد تتمكن القوى الإقليمية من تقويض الطموح الكوردي في سوريا، مما سيؤدي إلى إنهاء أي فرصة لوجود كيان كوردي مستقل هناك. في النهاية، سيعتمد مستقبل الكورد في سوريا على التوازنات الإقليمية، وحجم الدعم الدولي، وقدرتهم على التفاوض السياسي والحد من الخلافات الداخلية وإذا لم يتمكنوا من تحقيق توافق سياسي داخلي ودعم دبلوماسي خارجي، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً سيكون التراجع التدريجي لمشروعهم السياسي في سوريا.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً