تشكلت سوريا كدولة حديثة بعد الحرب العالمية الأولى، في أعقاب تقسيم الدولة العثمانية بين القوى المنتصرة. لم يكن للعرب أو الكورد، وغيرهم من الشعوب المحلية، أي دور في رسم ملامح الدولة السورية أو تحديد مستقبلها السياسي والاجتماعي. وكان من تبعات هذا التقسيم ضم جزءٍ من كوردستان، الموطن التاريخي للشعب الكوردي، إلى حدود الدولة السورية الناشئة، مما جعل سوريا تضم قوميتين رئيستين: العرب والكورد، إلى جانب أقليات قومية أخرى.
على صعيد التنوع الديني، تعد سوريا موطناً لطوائف ومذاهب متعددة، فهي تضم المسلمين بمذاهبهم المختلفة (السنة، الشيعة، العلويين)، والمسيحيين بطوائفهم المتعددة، فضلاً عن الإزيديين وغيرهم. هذه التعددية جعلت من سوريا لوحة فريدة من الفسيفساء الثقافية، لكنها في الوقت ذاته شكلت تحدياً سياسياً واجتماعياً، زادت تعقيده السياسات المركزية القمعية.
كوردستان سوريا الهوية المُغَيَّبة
منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، واجهت السلطات صعوبات جمة في إدارة تنوعها القومي، ولاسيما فيما يخص الشعب الكوردي، ثاني أكبر قومية في البلاد. فبدلاً من الاعتراف بحقوق الكورد الثقافية والسياسية، انتهجت الأنظمة الحاكمة سياسات الإقصاء والإنكار.
يتركز وجود الكورد في شمال سوريا، يعيشون على أرضهم التاريخية أو ما يعرف تاريخياً بـ”كوردستان سوريا”، لكنهم تعرضوا على مدار عقود لمحاولات طمس هويتهم. شملت هذه السياسات تغيير أسماء القرى والمدن الكوردية إلى أسماء عربية، وحرمان عشرات الآلاف من الجنسية السورية في إحصاء عام 1962، إلى جانب مصادرة الأراضي ضمن إطار مشروع “الحزام العربي” في منطقة الجزيرة ومشروع ما سمي زوراً بالإصلاح الزراعي في منطقة عفرين / جبل الكورد، واللذين هدفا إلى تغيير التركيبة السكانية في المناطق الكوردية عبر توطين عرب فيها.
هذه السياسات لم تكن إجراءات منفردة أو عشوائية، بل جزءاً من نهج ممنهج يسعى إلى صهر الكورد ضمن هوية قومية عربية قسرية. ورغم ذلك، نجح الكورد في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم وهويتهم القومية. كما لعبوا دوراً مهماً في الحركة الديمقراطية السورية، مطالبين بحقوقهم ضمن إطار وحدة البلاد، بعيداً عن الاتهامات الانفصالية التي طالما استُخدمت لتبرير القمع.
سياسات الإقصاء وتفكك النسيج الاجتماعي
إنكار التنوع السوري ومحاولة فرض هوية قومية ودينية واحدة أفرزت نتائج كارثية على النسيج الاجتماعي. فقد أنتجت هذه السياسات انقسامات عميقة وزادت من مشاعر التهميش لدى العديد من المكونات، وخاصة الكورد. ومع مرور الزمن، أصبحت هذه الانقسامات وقوداً للصراعات التي تفجرت في البلاد منذ عام 2011.
الصراع السوري المستمر أكد فشل النظام المركزي في تلبية احتياجات مكونات البلاد المختلفة. فالإصرار على النهج القمعي والإقصائي أدى إلى تفاقم الأزمات، تحولت معها مؤسسات الدولة إلى أجهزة أمنية فحسب، مما جعل البحث عن بدائل أكثر عدالة أمراً لا مفر منه.
الفيدرالية كإطار للتعايش والعدالة
في ظل هذه التحديات، تبرز الفيدرالية كخيار مستدام لإدارة التنوع السوري وضمان العدالة للجميع. الفيدرالية ليست مجرد نظام إداري، بل رؤية سياسية تعترف بالتعددية الثقافية والقومية، وتمنح كل مكون مساحة لإدارة شؤونه بما يتناسب مع خصوصياته.
فوائد الفيدرالية:
1. حماية التنوع القومي والديني: تتيح الفيدرالية للكورد، كما لغيرهم من المكونات، التعبير عن هويتهم بحرية، دون قيود أو تهميش.
2. توزيع عادل للسلطة والثروة: تسهم الفيدرالية في توزيع الموارد بشكل منصف، مما يضمن مشاركة جميع الأقاليم والمناطق في صنع القرار.
3. تعزيز الاستقرار السياسي: بتخفيف الهيمنة المركزية، تقلل الفيدرالية من التوترات والنزاعات التي نشأت بسبب سياسات الإقصاء.
4. تعزيز الوحدة الوطنية: الفيدرالية لا تعني تقسيم البلاد، بل تعزز شراكة جميع المكونات في بناء الوطن، ما يعزز شعور الانتماء الوطني.
كوردستان سوريا في النظام الفيدرالي
بكل تأكيد تمثل الفيدرالية فرصة لدمج كوردستان سوريا في نظام سياسي عادل، يعترف بحقوقهم ويحترم خصوصيتهم، دون أن يكون ذلك على حساب مصالح المكونات الأخرى. كما أن تطوير هذه المنطقة، بموقعها الستراتيجي ومواردها الغنية، يمكن أن يسهم في نهضة شاملة للبلاد.
رؤية جديدة لسوريا.. الديمقراطية والتعددية
إن بناء سوريا جديدة يتطلب تجاوز أخطاء الماضي والانفتاح على رؤية سياسية جديدة تقوم على الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
في هذا السياق، تمثل الفيدرالية إطاراً لإعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري، بحيث تكون العدالة والمساواة حجر الأساس للدولة الجديدة. الفيدرالية ليست تهديداً لوحدة البلاد، بل هي وسيلة لتعزيز هذه الوحدة من خلال منح كل مكون حقوقه الكاملة. هذا النظام سيتيح للكورد وغيرهم من المكونات أن يكونوا شركاء حقيقيين في بناء المستقبل.
خاتمة: نحو استقرار دائم
إن مستقبل سوريا يعتمد على قدرتها على التصالح مع تنوعها القومي والديني والثقافي. إذ يمكن لسوريا أن تتحول إلى نموذج للعيش المشترك في منطقة تعاني من الصراعات والانقسامات، وذلك من خلال تبني نظام ديمقراطي فيدرالي ينسجم مع تنوع سوريا وحقائقها التاريخية والجغرافية.
كوردستان سوريا، بما تمثله من تنوع ثقافي وتاريخي، ستكون ركيزة أساسية في هذا المشروع. فالاعتراف بحقوق الكورد ليس فقط التزاماً أخلاقياً، بل خطوة جوهرية لبناء سوريا موحدة وقوية. الفيدرالية هي المفتاح لتجاوز الماضي وبناء مستقبل مشرق لكل السوريين.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً