في كراستها الباريسية تبحث لطيفة الدليمي عن ذاتها ووجودها وإنسانيتها بعدما بعثرتها رياح التغيير، تقترب بنت بغداد من تمثيل شخصية كلكامش الباحث عن سر الوجود والحياة الابدية بعيدا عن سيل التفجيرات وتكدس فتاوى القتل والترويع، وهي شهادة حية على ما تعرض له العراق جراء حرب طائفية تحرق امامها الاخضر واليابس، هذه الحرب التي لا تعترف لا بالجغرافية ولا التاريخ وتنشر السواد والموت اينما حلت.
في مذكراتها التي صدرت عن دار المدى للاعلام والثقافة والفنون 2023 فتحت الروائية صدرها وقلبها للقارئ ودكت عرينه للخوض في تجربتها بعد سقوط العراق في ايدي من لا يرحمون من قوى الظلام والتكفير، فغدا القتل هواية يمارسها كل من استطاع اليه سبيلا، فبعد ان يغرق العراق ويمتد العنف الى طرف ثوبها البغدادي الجميل وتجد امامها الكثير من المثقفين والاعلامين يتساقطون كأوراق الخريق تقرر الخروج من هذا الجحيم، وتبحث لها عن وطن جديد بعد ان فقدت انتماءها وباتت تشعر بنوع من الاغتراب الذاتي، فاختفت دور السينما واخذت معها الشعر والثقافة وبسطت بدلا عنه الخراب والدمار والموت.
هي تجربة حية ومليئة باللحظات الصعبة، فكم هو صعب الهروب بعد ان استنفذت كل الوسائل والطرق للتعايش مع الوضع الجديد الذي باتت عليه بغداد واصبحت لا تشبه نفسها.
الاردن وعمان هي الوجهة بعد تعرضها للتهديد بحياتها ولم يشفع لها كل ذلك الحب الذي تخزنه وتختزله لبغداد، لشواعها وساحاتها وحدائقها ومقاهيها ومكتباتها، وهي تدرك في قرارة نفسها انها لا تستطيع العيش خارج مدينة الفتها بحواريها وناسها البسطاء، وستفشل في محاولتها الخروج من عوالم ابي نواس والمتنبي فهي كالسمكة التي من المستحيل ان تعيش خارج الماء.
تودع بغداد بقلب منكسر على أمل العودة وهي لا تعلم انه العشاء الاخير مع حديقتها وارواقها ومكتبتها واصدقائها وتنظر بعيون حزينة من نافدة الطائرة التي ترسي بها على ارض مطار الاردن.
يتدخل القدر في مسيرتها ويبدو انه يريد ان تكون شاهدة حقيقية على فرنسا وباريس الاضواء التي تشع منها الحياة، والتي خلدها المفكرون بنظرياتهم وفلسفاتهم، والرسامون بلوحاتهم ومدارسهم الفنية. عالم باريس الساحر الذي يشبه في تفاصيله عالم افلاطون الذي قسم العالم الى عالم سامي مليء بالافكار والروحانيات وعالم ارضي مشبع بالجسد والملذات.
لطيفة الدليمي الكاتبة والمترجمة والصحفية ابنه بعقوبة في محافظة ديالى تدون يومياتها الصعبة وتسرد للقارئ تجربة اللجءء الصعبة بعد ان فتحت لها باريس وفرنسا ذراعيها، بعد ان لفظها وطنها، فمن بيت الصحفيين الذي تديره منظمة مراسلون بلا حدود تشارك تجربها مع الكوردية التركية والبنغالية والشيشانية والصومالية والموريتانية والسورية، وهي العراقية التي رشحها العراق لتكون سفيرة له في حياة اللجوء، وهي تكشف بمبضعها الحاد عن الوجه الحقيقي لهذه الحياة، وهي بعكس المفكر رفاعة رافع الطهطاوي صاحب كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز المنبهر بالحضارة الباريسية ويقارن فيه بين الاسلام والمسلمين.
ففي باريس وجد الاسلام ولم يجد المسلمين بعكس وطنه مصر التي وجد فيها المسلمين ولم يجد الاسلام، فلطيفة الدليمي لم تجد الامان الذي كانت تفتقده في بلدها، بل تعرضت للضرب والتنكيل من شباب اصحاب بشرة سوداء رفضوا الاندماج بالمجتمع الفرنسي المليء بالتناقضات، وخاصة حواريها وشوارعها التي يسكن فيها المهمشون والمعدمون والباحثون عن انتماء لوطن لا يمنحهم أي انتماء.
تضيع المؤلفة بين المؤلفة قلوبهم من الجالية العراقية التي وجدت فيها زائرا جديدا يريد ان يقاسمها نعمة اللجوء، فبعد خمسة شهور من الاقامة في بيت الصحفيين تبدأ رحلة البحث عن سكن وأمان، وتفشل كل محاولاتها في الحصول على سكن متواضع يقيها برد باريس، لكنها تعوض ذلك بالاختلاط بالمثقفين والمثقفات من امثالها الذين منحوها الدفء والحب ولم يتخلوا عنها كما اقرانها من عراقيي المهجر.
في سنتين من الاقامة القسرية بحكم عدم وجود بديل لا تدخر لطيفة جهدا في الغوص الى اعماق تاريخ فرنسا واوروبا ومدنها المزركشة بالفنانين والعازفين والكتاب والمسرحيين، فمن اديت بياف المغنية الفرنسية الى سيمون دي بفوار، عاشقة وزوجة جان بول سارتر، الى عوالم البير كامو وعنف الادب والواقع المتمثل بالماركيز دوساد المشبع بالجنس، الى الفنانين فرديناند هودلر بلوحتيه الليل والنهار، وعوالم الفنان بول كلي وبيت اينشاتين وبلزاك وستاندال ومعارك نابليون بونابرت، وألقت ضوءاً قوياً على مدنهم وقرائهم وافكارهم، فكانت بحق تستحق لقب ابنة بطوطة في كشفها عن كل تلك الوشائج العميقة والمتناقضة للمجتمع الفرنسي بخاصة والاوروبي بشكل عام.
لكنها تفشل في مهمتها الاساسية وهي الحصول على شهادة اندماج في المجتمع والقبول بصفة لاجئة، فهي ما ان تتعرف على الجانب المظلم للثقافة الفرنسية التي تتطلب منك تقديم صورة مشوهة عن عالمك ووطنك في الصحافة والاعلام، فالعراق لا يمكن اختصاره بقوافل الداعشيين وقطاعي الرؤوس وسبي النساء وتفجير المراقد والاضرحة وتهجير الآمنين، فوراء هذه اللوحة القاتمة عالم اخر يمكننا ان نراه ونتلمسه بالعين المجردة، فهي حينما تجد فرصة امامها للخروج من هذا الجحيم لا تترد ابداً في ترك باريس باضوائها، فهذه المدينة بأهلها ومثلييها ومقاهيها تؤكد بما لا يقبل الشك، ان الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا حسب الشاعر الانكليزي كييلينغ.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً