تتكرت كثيراً عبارة (قرارات المحكمة الاتحادية "باتة وملزمة") ولا يمكن الاعتراض أو الطعن بها، وهذا ما جاء بنص المادة (94) من الدستور والتي نصت على "قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة".
وجاء التوضيح أكثر لعبارة "باتة وملزمة" في النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022 بالمادة (36) على "قرارات المحكمة باتة وملزمة للسلطات والأشخاص كافة ولا تقبل الطعن باي طريقة من طرق الطعن، وتُنشر القرارات التي تقضي بعدم دستورية القوانين والأنظمة والقرارات الأخرى التي تقوم المحكمة باصدارها في الجريدة الرسمية والموقع الإلكتروني للمحكمة، ويُعرض الممتنع عن تنفيذها للمسائلة الجزائية"، ولكن! عندما نراجع قرارات المحكمة الاتحادية سواء بولايتها السابقة أو الحالية نجد أنَّ عبارة "باتة وملزمة" تُطبق على طرف ويلتزم بها لأن هذا نص دستوري، وفاعل سياسي آخر لا يلتزم بها.
على سبيل المثال، قرار المحكمة الاتحادية رقم 9/ اتحادية/ 2023 بتاريخ 14/ 11/ 2023 الخاصة بانهاء عضوية رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وفي حينها كان السيد الحلبوسي هو من يدير جلسة مجلس النواب، وعندما وصله قرار المحكمة الاتحادية بانهاء عضويته قام برفع الجلسة على الفور والتزم بقرار المحكمة الاتحادية لأن قراراتها "باتة وملزمة".
ولكن عندما قررت المحكمة الاتحادية بقرارها المرقم (153/ اتحادية/ 2023) اعتبار المادة (71) من قانون الموازنة العامة الاتحادية للسنوات (2023- 2024- 2025) دستورية، لذلك طالب رئيس مجلس الوزراء المحكمة الاتحادية بالدعوى المرقمة (223/ اتحادية/ 2023) باعتبار المادة (71) غير دستورية! العدول عن قرارها بالعدد (153/ اتحادية/ 2023)، لذلك لم تلتزم الحكومة بقرار المحكمة الاتحادية وعبارة "باتة وملزمة" والأدلة كثر ومنها: غالبية مؤسسات الدولة تُدار بالوكالة!، علماً أنَّ المادة (71) من قانون الموازنة العامة الاتحادية رقم (13) لسنة 2023 نصت على "تلتزم الحكومة بإنهاء إدارة مؤسسات الدولة بالوكالة كافة في موعد أقصاه (30/ 11/ 2023) على أن تقوم الدوائر المعنية بإيقاف جميع المخصصات المالية والصلاحيات الإدارية في حالة استمرارها بعد التاريخ المذكور اعلاه، وعلى مجلس الوزراء ارسال المكلفين بمناصب رؤساء الهيئات المستقلة والدرجات الخاصة (أ،ب) ووكلاء الوزارات والمستشارين إلى مجلس النواب قبل (30) يوماً من التاريخ أعلاه، ويلتزم مجلس النواب بإتخاذ القرار بالتصويت خلال (30) يوماً من تأريخ ارسال الأسماء"، نص واضح وصريح لم تلتزم الحكومة لا بتشريع مجلس النواب وفق نص المادة (61/ اولاً) من الدستور، ولم تلتزم بقرار المحكمة الاتحادية رقم (153/ اتحادية/ 2023).
وشاهدٌ آخر هو قرار للمحكمة الاتحادية بولايتها السابقة رقم (87/ اتحادية/ 2010، حيث أشار إلى عدم دستورية عبارة "هيئة الرئاسة في مجلس النواب" وإنما الرئيس لمجلس النواب ونائب أول ونائب ثاني لرئيس المجلس، ولكن في جلسة انتخاب رئيس جديد للمجلس بدلاً للسيد الحلبوسي بتاريخ 13/ 1/ 2024 وبعد الذهاب لجولة انتخاب ثانية طلب النائب الاول للمجلس تعديل النظام الداخلي وإضافة فقرة "هيئة رئاسة المجلس"! على الرغم من وجود قرار للمحكمة الاتحادية والذي أشار إلى عدم دستورية العبارة!، وهذا يعزز فرضية أنَّ قرارات المحكمة الاتحادية (باتة وملزمة) يلتزم بها طرف واحد دون الاطراف الاخرى، حسب نفوذ وفاعلية الشخصية السياسية وقوة دعمها من الكتل السياسية، على الرغم من أن الدستور العراقي بالمادة (14) نص على "العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي"، ولكن على أرض الواقع هذه المادة غير مطبقة!، وهناك مقولة لمنتسكيو يقول إن "القانون يجب ان يكون كالموت لا يستثني احد"، إلا أن في العراق مشكلة الاستثناءات والمجاملات.
كذلك لدينا قرار للمحكمة الاتحادية رقم (38/ اتحادية/ 2019) حيث أشار الى عدم دستورية ترشيح مجلس القضاء الأعلى لرئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية، واستندت على الحكم الصادر من المحكمة الاتحادية بتاريخ 11/ 4/ 2017 والذي قضى بعدم تخصص مجلس القضاء الأعلى بترشيح رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية وبينت الاسباب وحيثيات ذلك الحكم، ولكن! قانون رقم (25) لسنة 2021 التعديل الأول لقانون المحكمة الاتحادية رقم (30) لسنة 2005، ولاسيما المادة (3/ ثانياً) نصت على "يتولى رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس جهاز الادعاء العام ورئيس جهاز الإشراف القضائي، اختيار رئيس المحكمة ونائبه والأعضاء من بين القضاة المرشحين مع تمثيل الاقاليم في تكوين المحكمة وترفع اسماؤهم إلى رئيس الجمهورية لاصدار المرسوم الجمهوري بالتعيين خلال مدة اقصاها (15) خمسة عشر يوماً من تاريخ اختيارهم" هذا التعديل نسف قرار المحكمة رقم (38/ اتحادية/ 2019) وحكمها في (11/ 4/ 2017)! والذي يعد باتاً وملزماً للسلطات كافة!، ولكل ما سبق ووفق الحالات والقرارات التي ذكرتها لم يتم الالتزام بعبارة "باتة وملزمة".
ولدينا حالتين متشابهتين بالنسبة لاختصاصات المحكمة الاتحادية العليا التي وردت في الدستور ولاسيما المادة (93)، بحيث أن قرار المحكمة الاتحادية رقم (38/ اتحادية/ 2016) أشار إلى عدم دستورية جلسة مجلس النواب المنعقدة بتاريخ (14/ 1/ 2016) والخاصة بإقالة رئيس مجلس النواب الأسبق سليم الجبوري، فضلاً عن الحكم بعدم دستورية الجلسة المنعقدة بتاريخ 26/ 4/ 2016 وإلغاء كافة قراراتها التي اتخذت، ومنها قرارات اقالة الوزراء وإحلال بدلاء عنهم، ولكن! العجيب الغريب أن المحكمة الاتحادية العليا بقرارها رقم (22/ اتحادية/ 2024) ردت دعوى لأحد النواب والذي طالب المحكمة بإصدار قرار بعدم دستورية جلسة انتخاب رئيس مجلس نواب جديد بدلاً من السيد الحلبوسي بتاريخ (13/ 1/ 2024)، والسبب هو لعدم التخصص! وهذا تناقض تام، وفي سنة 2016 المحكمة الاتحادية العليا هي صاحبة التخصص بإصدار قرار بعدم دستورية الجلسة، وفي سنة 2024 خارج تخصصها!.
واخيراً قرار محكمة التمييز الاتحادية الذي أعدم قرار المحكمة الاتحادية العليا الخاص بالقاضي عبدالرحمن زيباري، بسبب خروج المحكمة الاتحادية العليا عن صلاحياتها المحددة بالمادة (93) وانتقلت من التفسير إلى التشريع، لذلك أصبحت عبارة "باتة وملزمة" تطبق على قضية معينة وتشمل واحدة دون أخرى، وسوف يبقى الوضع على نفس المسار مالم يشرع قانون المحكمة الاتحادية وفق ما نصت عليه المادة (92/ ثانياً) من الدستور، والمادة (47) من الدستور نصت على "تتكون السلطة الاتحادية من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات"، ولا يجوز لأي سلطة تجاوز صلاحياتها لان تجاوز الصلاحيات سيكون مخالف للدستور وتكوّن مشاكلات كثيرة.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً