تشهد مدينة أنطاليا التركية حدثاً دبلوماسياً في غاية الأهمية، يُتوقع أن يكون محوره لقاء استثنائي يجمع رئيس إقليم كوردستان العراق، السيد نيچيرڤان بارزاني، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذلك ضمن إطار ملتقى سياسي رفيع المستوى يضم نخبة من قادة المنطقة، بمن فيهم الرئيس السوري أحمد الشرع.
هذا اللقاء لا يمكن تناوله كحدث بروتوكولي فقط، بل هو تحرك ستراتيجي في لحظة إقليمية ودولية معقدة جداً، تتقاطع فيها الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتُعاد من خلالها صياغة التوازنات في الشرق الأوسط. فالرئيس نيجيرفان بارزاني لا يدخل أنطاليا كضيف سياسي فحسب، بل كفاعل إقليمي يمتلك أوراقاً تفاوضية متنوعة على ثلاثة محاور رئيسية: ملف تصدير نفط إقليم كوردستان، العملية السلمية المتعثرة بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني، والمشهد السوري الراهن في ظل حالة الانسداد والتمزق.
لقد رسّخ نيچيرڤان بارزاني، خلال أكثر من عقد من العمل السياسي والدبلوماسي، صورة رجل الدولة الهادئ والمحنك، القادر على قراءة الجغرافية السياسية للإقليم كساحة للتفاوض لا للمواجهة، ومجال لبناء الجسور لا للانغلاق. فمنذ اللحظة الأولى لتوليه المهام القيادية، اختار نهج الانفتاح المتوازن، الذي يعتمد على إدارة تعقيدات الداخل العراقي بعقلية واقعية، ويُقابل الخارج الإقليمي والدولي بدبلوماسية مرنة لكن غير خاضعة.
هذا النهج، الذي نجح في خلق شبكة علاقات ستراتيجية مع أطراف ذات مصالح متناقضة، مثل الولايات المتحدة وإيران وروسيا وأوروبا وتركيا، لم يُفرّط في استقلالية القرار الكوردي، ولم يسمح بتحويل الإقليم إلى منصة لتصفية الصراعات. بل على العكس، استطاع أن يحافظ على دور كوردستان كفاعل سياسي متزن في معادلات المنطقة، رغم كل ما تعانيه من ضغوط داخلية وخارجية.
أحد أبرز الملفات التي يحملها بارزاني إلى طاولة أنطاليا هو ملف النفط، الذي عاد ليطفو على سطح الأحداث بعد أعوام من التوتر بين بغداد وأربيل، وبين أربيل وأنقرة. فقد تحوّل تصدير النفط الكوردي إلى قضية خلافية تتجاوز بعدها الاقتصادي إلى التمثيل السياسي والسلطة الفيدرالية. وبينما تصرّ بغداد على مركزية القرار النفطي، قدّم نيجيرفان بارزاني نموذجاً عملياً للاقتصاد اللامركزي القائم على التفاهم الإقليمي والشراكة مع تركيا. وتمكن من الحفاظ على استمرارية هذا التعاون رغم تقلبات السياسات الداخلية التركية، مما أتاح للإقليم دوراً محورياً في سوق الطاقة العالمية. وفي ضوء التحديات الراهنة، يتجه بارزاني نحو إعادة إحياء خط أنابيب جيهان وتثبيت اتفاق نفطي دائم يحقق مصالح الإقليم ويحفظ استقرار الإمدادات، وهو ما يعكس رؤيته العميقة للعلاقة بين الاقتصاد والدبلوماسية.
في الوقت نفسه، يفرض ملف حزب العمال الكوردستاني نفسه بقوة على جدول أعمال اللقاء، كونه أحد أصعب الأزمات التي تواجه العلاقات التركية - الكوردية. وبرغم أن إقليم كردستان ليس طرفاً مباشراً في النزاع، إلا أن موقعه الجغرافي يجعله حجر زاوية في أي حل مستقبلي. وقد اتخذ نيجيرفان بارزاني موقفاً ثابتاً يتمثل في رفض عسكرة الصراع ودعم الحلول السياسية التي تضمن حقوق الكورد في تركيا دون تهديد وحدة الدولة. وهو بهذا ينطلق من تجربة المصالحة العراقية الداخلية بين الإقليم والمركز، ساعياً إلى نقل هذه الخبرة إلى السياق التركي ضمن مقاربة تعتمد على العقلانية السياسية والتوازن الأمني. ومن المرجح أن يسعى في أنطاليا إلى إحياء مسار التفاوض المجمد، عبر طرح رؤية شاملة تقوم على مقاربة تدريجية تُراكم الثقة بين أنقرة والفاعلين الكورد في الداخل التركي.
أما على المستوى السوري، فإن اللقاء المحتمل بين نيجيرفان بارزاني والرئيس السوري بالوكالة أحمد الشرع، يشير إلى دخول دبلوماسية أربيل مرحلة جديدة من التفاعل المباشر مع الشأن السوري، وخاصة مع تصاعد دور الإدارة الذاتية الكوردية في شمال شرق سوريا. ويُنظر إلى نيجيرفان بارزاني كجسر حيوي بين دمشق والكورد السوريين، بفضل ما يمتلكه من شرعية قومية وخبرة سياسية ومصداقية لدى الأطراف المتنازعة. ويُتوقع أن يناقش مستقبل سوريا على ضوء المقترحات الفيدرالية أو اللامركزية، وهي نماذج يتقنها نيجيرفان بارزاني فكرياً وعملياً. وقد يسعى من خلال هذا اللقاء إلى بناء منصة حوار سياسي بين القوى الكوردية ودمشق، بهدف تجنيب المنطقة صراعاً مستقبلياً، وتحويل التوتر القومي إلى تفاهم سياسي يُدمج الكورد في مشروع الدولة السورية القادمة، لا على الهامش بل في المركز.
ما يميّز أداء نيچيرڤان بارزاني، ويُكرّسه كأحد أبرز رجال الدولة في الشرق الأوسط اليوم، هو قدرته على الإمساك بخيوط متعارضة دون أن تتشابك أو تنقطع. فقد جمع في زيارته إلى أنطاليا بين لقاءات مع رؤساء دول ذات مصالح متضادة، واستطاع أن يُحافظ على خطاب متماسك يخاطب به الجميع بلغة المصلحة المشتركة، لا التبعية ولا الاصطفاف. هذه الدبلوماسية التي يمكن وصفها بـ"دبلوماسية التوازي" لا تقوم على الحياد السلبي، بل على الفاعلية الهادئة، والانخراط المدروس في شبكة العلاقات الإقليمية دون خسارة المبادئ الكوردستانية الأساسية. فهو يتحدث مع أردوغان كشريك اقتصادي وستراتيجي، ومع الشرع كمفتاح لملف كوردي معقد، وفي الحالتين يطرح حلولاً وليس مشاكل، ويبني قنوات وليس جدراناً.
من هنا، فإن لقاء أنطاليا لا يُعد محطة عابرة في جدول أعمال رئاسي، بل لحظة دبلوماسية فاصلة تحمل أبعاداً تتجاوز اللحظة الراهنة. فنيجيرفان بارزاني لا يمثل في هذه اللقاءات إقليم كوردستان فقط، بل يمثل فكرة الكوردي الفاعل في صناعة السلام، في بناء الاقتصاد، وفي صياغة مستقبل الدول التي يعيش فيها. وإذا كانت الجغرافيا قد حكمت على الكورد بالتمزق والشتات، فإن الدبلوماسية التي يتقنها نيجيرفان بارزاني تفتح أمامهم أفقاً للوجود السياسي الرشيد، الذي لا يتعارض مع الجغرافية، بل يعيد رسم حدودها على مقياس التفاهم والمصالح المشتركة.
وهكذا، من أنطاليا إلى مراكز القرار، يواصل نيچيرڤان بارزاني صياغة نموذج كوردي مختلف، لا يعتمد على خطاب الضحية، ولا ينجرف وراء نزعة التمرد، بل يعيد تعريف الدور الكوردي في الشرق الأوسط كقوة عقلانية، بنّاءة، ومتعددة القنوات، تُجيد الإصغاء كما تُجيد التأثير، وتُراكم الوجود السياسي دون ضجيج. وبين عقبات النفط، وتعقيدات السلام، ومتاهات الجغرافية السياسية، تثبت دبلوماسيته أنها ليست مجرد إدارة لحظية، بل مشروع متكامل لصناعة التوازن في زمن اللا توازن.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً