وثيقة تاريخية عن مغادرة ملا مصطفى البارزاني السليمانية في 1942

07-03-2016
كامران قرەداغي
A+ A-

 

في أرشيف عائلتنا صور واوراق تعود لوالدي شيخ مصطفى قره داغي، وكثير منها محفوظ عند شقيقي الأصغر أحمد، بينها نسخة من "كتاب سرّي" يتألف من ثماني صفحات مطبوعة على الآلة الكاتبة بتاريخ 23/2/1944 و رقم 16، وهو موجه من والدي بصفته الرسمية كمتصرف (محافظ) لواء (محافظة) أربيل آنذاك الى وزير الدولة ماجد مصطفى ، ردا على كتاب الأخير بتاريخ 5/1/1944، الذي كان مكلفا من الحكومة العراقية اجراء تحقيق في شأن ظروف وأسباب مغادرة ملا مصطفى بارزاني السرية من السليمانية في 1942 عندما كان منفيا هناك ووالدي متصرفا فيها قبل نقله الى متصرفية أربيل.

كان التحقيق يسعى الى الاجابة عن أسئلة وخلفيات عن الظروف المعيشية للبارزانيين المنفيين في السليمانية وتعامل السلطات معهم وهل كانت الدوائر الرسمية تستمع الى مشاكلهم وطلباتهم الأمر الذي أجاب عنه المتصرف في "الكتاب السري" مؤكدا ان "دوائر الحكومة على اختلافها كانت تقبل مراجعاتهم بكل ارتياح".

أما عن دوره شخصيا فيؤكد انه ساعد المنفيين مستشهدا بمراسلات رسمية بينه ومتصرف الموصل من جهة ومرجعيته ووزراة الداخلية من جهة اخرى . غير ان ما لم يذكره في "الكتاب السري" أنه شجع عمليا ملا مصطفى البارزاني على عدم الرضوخ لشروط ارادت بغداد فرضها عليه الأمر الذي أدى الى قراره مغادرة السليمانية سرا . أشير الى انني كنت سألت والدي مرة عما حدث في تلك الفترة فامتنع عن الخوض في الموضع قائلا انها امور من الماضي لا يحب ان يخوض فيها ، علما انه كان لديه تقييمه الخاص للحركة الكوردية في تلك الفترة من وجهة نظره كموظف حكومي مطلع بحكم أدارته في فترات مختلفة لثلاث محافظات مهمة هي السليمانية واربيل وكركوك . لكن الجواب عن سؤالي ذاك سمعته بعد وفاة والدي بأكثر من 40 عاما خلال حديث عن احداث تاريخية وتبادل ذكريات بيني وصديقي رجل الأعمال المعروف الاستاذ دارا عطار عندما روى لي قبل عام انه سمع شخصيا من ملا مصطفى البارزاني أن المتصرف شيخ مصطفى التقاه قبيل مغادرته السرية للسليمانية وأوحى اليه بطريقة ما أن يرفض عرضا مهينا من الحكومة الأمر الذي لم يترك له سوى خيار مغادرة السليمانية سرا . ولدى عطار تفاصيل مثيرة عن ذلك اللقاء وخلفياته المرتبطة بحادث مغادرة ملا مصطفى البارزاني للسليمانية . معروف  أن عطار كان قريبا من ملا مصطفى البارزاني وموضع ثقته وممثله الخاص في لبنان بين 1967 و1971 وفي بريطانيا من 1971-1972. ولن أذكر التفاصيل التي سمعها الصديق دارا من المرحوم ملا مصطفى البارزاني ، آملا أن يرويها وينشرها بنفسه كما وعد.

أما عن جوهر الموضوع المتعلق بسبب أو اسباب مغادرة الملا مصطفى البارزاني مع بعض رجاله من السليمانية حيث كان الملا مصطفى منذ 1935 منفيا مع أخيه الأكبر الشيخ أحمد البارزاني وعائلات بارزانية أخرى بعضها من شيوخ بارزان ، يشير المتصرف الى الأوضاع الصعبة للبارزانيين المنفيين ملاحظا انهم كانوا يعتمدون في معيشتهم على المخصصات الحكومية التي كانت "لا تكفي الا لدفع الجوع عنهم"، مقدما تفاصيل تلك المخصصات دليلا على كلامه ومساعيه الى زيادتها انسجاما مع "غلاء المعيشة". فالشيخ أحمد البارزاني كان يتقاضى في 1941 مبلغ 20 دينارا شهريا زيدت بالتدريج الى 35 دينارا في 1943 فيما كان الملا مصطفى البارزاني يتقاضى 12 دينارا زيدت الى 24 دينارا وهكذا بقية الشيوخ وأقل من ذلك بكثير لافراد العائلات من الأتباع . ويضيف الشيخ مصطفى انه أمر علاوة الى ذلك بتمويلهم مواد غذائية من المخازن الحكومية أسوة بالموظفين الحكوميين وعين الرجال من الأتباع في دائرتي المساحة والبلدية بأجور يومية نظرا لضآلة مخصصاتهم الحكومية كمنفيين . فوق ذلك يقول انه فتح مراسلات رسمية مع وزارة الداخلية ومتصرفية الموصل للسماح بعودة عدد كبير من العائلات البارزانية المنفية في السليمانية حيث كان العدد الاجمالي لافرادها من رجال ونساء واطفال 118 شخصا ونجح في الحصول على موافقة وزارة الداخلية ومتصرفية الموصل على عودة كثيرين منهم الى ميركَه سورعلى نفقة الحكومة مع منح كل منهم راتب شهر من مخصصاتهم كمنفيين موضحا ان الشيخ أحمد البارزاني طلب منه شخصيا ان يبقى عائلتين معه لانه كان يعتمد عليهما. وأوضح المتصرف ان كل هذه التفاصيل مثبتة في مراسلاته الموجودة في وزارة الداخلية التي كانت المتصرفيات تابعة لها اداريا في ذلك الوقت.

يشار الى ان الملا مصطفى البارزاني غادر من منفاه في السليمانية برفقة شخصين او ثلاثة من أدلاء متوجها الى قضاء شهربازار ومن هناك عبر الحدود الى ايران حيث ساعدته عشائر كوردية ايرانية للانتقال من منطقة الى اخرى حتى وصل الى حدود ناحية برادوست التابعة للواء اربيل ومنها الى منطقة شيروان التابعة لقضاء زيبار حيث التحق به منفيون آخرون هربوا من منافيهم ليبدأ معهم مرحلة جديدة من حركاته التي يصفها مؤرخون كورد بـ "ثورات البارزانيين".

يختم المتصرف شيخ مصطفى قره داغي كتابه السري كالآتي: "ان شيوخ بارزان استمروا في المنفى مدة طويلة ونقلوا من مكان لآخر من شمال العراق الى جنوبه ومن جنوبه الى شماله وليس لهم ما يعيشون به من مال سوى المبالغ التي خصصتها لهم الحكومة وكانت مبالغ لا تكفي الا لدفع الجوع عنهم في حين انهم كانوا متعودين عيشة واسعة ونفوذا مطلقا في مناطقهم ومثل هؤلاء الاشخاص من حقهم ان يملوا الحياة الاخيرة المقيدة السيئة".

هذا بالنسبة الى موضوع مغادرة ملا مصطفى البارزاني السليمانية. الى ذلك يتضمن الكتاب السري معلومات تسلط الضوء، من وجهة نظر الوالد استنادا الى خبرته ومشاهداته العملية ومناصبه الادارية والقضائية كمتصرف للسليمانية واربيل وقائمقام وقاض لأقضية ونواح منها زاخو ودهوك والعمادية وخانقين اضافة الى مركز لواء الموصل. وواضح من طبيعة الكتاب وتفاصيله أن شيخ مصطفى استغل المناسبة ليعرض لظروف المناطق الكوردية عموما للفت انتباه بغداد الى سوء معاملة السكان في هذه المناطق واهمال أوضاعهم وعجز الادارات الحكومية عن توفير الخدمات خصوصا في مجالات الصحة والكهرباء والتعليم مقدما أمثلة واقعية لمسها وشهدها بحكم الوظائف التي تقلدها في المناطق الكوردية.

وبعد مقدمة مسهبة عن أوضاع المناطق الكوردية في ظل الادارة العثمانية وبعدها الادارة العراقية التي وصفها المتصرف بانها كانت فاشلة وفاسدة وغير كفوءة اداريا ومسيئة للتعامل مع السكان في ظل الانعدام التام تقريبا للخدمات واستفحال نفوذ الأغوات، اقترح اتخاذ اجراءات "حازمة" لتصليح الأوضاع، تحديدا الاتي:

- تنظيم المدارس لنشر الثقافة بين السكان بشكل يأتلف مع عقليتهم (اقرأ: مع خصوصيتهم ككرد وعدم تكلمهم بالعربية) .

- تنظيم المشاريع العمرانية في المنطقة بما فيها اعمال الري لاشتغال السكان بكسب الحلال وتحصيل رزقهم بصورة واسعة.

- تنظيم حالة الموظفين وانتقائهم من طبقة مخلصة نزيهة عاملة للمصلحة وترفيه حالتهم المعاشية ليرتبطوا بالمنطقة ارتباطا حقيقيا.

- توسيع المؤسسات الصحية لمعالجة المرضى ومكافحة الأمراض المستوطنة التي تفتك بالسكان.

- تنظيم الطرق الموجودة وفتح طرق أخرى لربط القضية والألوية بعضها ببعض.

يلي ما سلف شرح واف لكل من هذه الاقتراحات مع ذكر أمثلة واقعية تأكيدا لملاحظاته عن سوء الادارة والخدمات ومعاملة السكان واهمال مناطقهم وأوضاع مزرية للسكان في مناطق كوردية. ولفتني في هذا المجال خصوصا مثالا عن التعليم في المدارس الابتدائية فذكرانه قام بزيارة تفقدية الى مدرسة ابتدائية في أحد أقضية أربيل وحضر درسا في احد الصفوف وعندما انتهى المعلم من شرح الدرس أراد المتصرف ان يختبر التلاميذ فسألهم ان يعيدوا شرح الدرس له لكنهم أجابوه بانهم لم يفهموا شيئا لان المعلم تكلم بالعربية التي لا يجيدونها اطلاقا! وعندما سأل المتصرف المعلم الكوردي لماذا لم يشرح لهم الدرس بالكوردية أجاب بأنه غير مسموح للمعلمين استخدام الكوردية وسيتعرضون للعقاب اذا فعلوا.

أختم بالاشارة الى ان "الكتاب السري" يعج بتفاصيل ومعلومات أخرى تسلط الضوء على التعامل الحكومي غير العادل ازاء المناطق الكوردية وسكانها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الاعلامية‬‬‬


تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب