تمثل الشراكة العراقية - البريطانية خطوة مهمة نحو تحقيق التنمية المستدامة، حيث تشمل مشاريع حيوية في قطاعات الطاقة، البنية التحتية، الاتصالات، والمياه. لكن نجاح هذه المشاريع لا يقاس فقط بحجم الاستثمارات أو عدد العقود الموقعة، بل يعتمد بشكل أساسي على مدى التزامها بالمعايير البيئية والحوكمة الرشيدة. فمع تفاقم التحديات البيئية التي يواجهها العراق، من شح المياه والتلوث الصناعي إلى الاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري، يصبح الالتزام بالحوكمة البيئية شرطاً أساسياً لضمان استدامة هذه الشراكة وتحقيق أهدافها التنموية.
يعد مشروع الربط الكهربائي مع السعودية باستخدام أنظمة نقل الطاقة البريطانية أحد أبرز المشاريع الستراتيجية التي تهدف إلى تحسين قطاع الطاقة في العراق. غير أن تحقيق استدامة حقيقية في هذا المجال يتطلب أكثر من مجرد توفير الكهرباء، إذ لابد أن يتماشى المشروع مع التشريعات البيئية الدولية، خاصة فيما يتعلق بخفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز مصادر الطاقة النظيفة. فبدون التزام واضح بمعايير البيئة، قد يتحول المشروع إلى عبء إضافي على البيئة العراقية التي تعاني بالفعل من ارتفاع معدلات التلوث وانبعاثات الغازات الدفيئة. هنا يأتي دور الحكومة العراقية في وضع لوائح تنظيمية تلزم الشركات المنفذة بتبني تقنيات مستدامة تقلل من الأثر البيئي وتعزز كفاءة استهلاك الطاقة.
وفي قطاع الاتصالات، يمثل إطلاق شبكة الجيل الخامس (5G) بالتعاون مع "فودافون" خطوة مهمة نحو التحول الرقمي في العراق. غير أن هذا التحول لا يخلو من تحديات بيئية، حيث يتطلب بناء بنية تحتية مكثفة تشمل آلاف الأبراج والمحطات، ما قد يؤدي إلى زيادة استهلاك الموارد الطبيعية. لذلك، من الضروري أن ترافق هذه الاستثمارات خطط واضحة لإدارة النفايات الالكترونية، والحد من التلوث الإشعاعي، وتعزيز إعادة التدوير وفقاً للمعايير البيئية الحديثة. فالعراق بحاجة إلى سياسات تنظيمية تضمن أن يكون التحول الرقمي مستداماً وليس مجرد توسع في البنية التحتية، من دون مراعاة العواقب البيئية.
أما في قطاع المياه، فإن مشروع مياه البصرة والمبادرات الأخرى لتحسين جودة المياه في جنوب وغرب العراق تعكس التزام الشراكة العراقية - البريطانية بتحقيق الأمن المائي. لكن الحلول التقنية وحدها لا تكفي لضمان استدامة هذه المشاريع، إذ لابد من حوكمة رشيدة تحكم إدارة الموارد المائية، وتفرض معايير صارمة على الشركات العاملة في القطاع، وتضمن تنفيذ مشاريع البنية التحتية بطريقة تقلل من التلوث وتحد من الهدر. فبدون وجود قوانين بيئية فعالة، قد تجد هذه المشاريع نفسها في مواجهة تحديات تجعلها غير قادرة على تحقيق أهدافها طويلة الأمد.
وفي الجانب الدفاعي، يتضمن التعاون العراقي - البريطاني تطوير قاعدة القيادة الجوية (القيارة) وتعزيز أمن الحدود، وهو مجال قد يبدو بعيداً عن القضايا البيئية للوهلة الأولى، لكنه يحمل أبعاداً بيئية لا يمكن تجاهلها. فالبنية التحتية العسكرية غالباً ما تكون مصدراً لانبعاثات عالية من الغازات الدفيئة، إلى جانب تأثيراتها على التربة والمياه الجوفية. لذا، فإن دمج الاستدامة البيئية في عمليات تطوير المنشآت العسكرية وإدارة الموارد الطبيعية في المناطق الحدودية يعد ضرورة لضمان ألا يكون الأمن على حساب البيئة.
تأتي هذه المشاريع في وقت يسعى فيه العراق إلى مواءمة تشريعاته البيئية مع الالتزامات الدولية، خاصة بعد انضمامه إلى اتفاقية باريس للمناخ. ومع ذلك، لاتزال التحديات كبيرة، فبين ضعف تطبيق القوانين البيئية وتفشي سوء الإدارة، يجد العراق نفسه أمام معضلة حقيقية. فالامتثال البيئي ليس مجرد التزام قانوني، بل هو شرط أساسي لجذب الاستثمارات وضمان استدامة المشاريع، إذ تتجه الدول المتقدمة نحو فرض قيود أكثر صرامة على المشاريع غير المتوافقة مع المعايير البيئية. إذا أراد العراق الاستفادة الكاملة من الشراكة مع بريطانيا، فعليه أن يعزز الشفافية والمساءلة، ويضمن أن تكون جميع المشاريع خاضعة لرقابة بيئية صارمة تحمي الموارد الطبيعية وتحافظ على حقوق الأجيال القادمة.
إن الشراكة العراقية - البريطانية تحمل إمكانات كبيرة لدفع العراق نحو مستقبل أكثر استدامة، لكنها لن تحقق أهدافها دون التزام جاد بالحوكمة البيئية والامتثال للمعايير الدولية. العراق أمام فرصة حقيقية لإعادة بناء اقتصاده على أسس بيئية سليمة، وإذا ما نجح في تحقيق التوازن بين التنمية وحماية البيئة، فسيكون قادراً على تحقيق تحول نوعي يضمن استدامة موارده ويضعه على خارطة التنمية المستدامة العالمية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً