بدعة السلة الواحدة ونزاع الاختصاص الدستوري

06-02-2025
محمد الشيخلي
الكلمات الدالة المحكمة الاتحادية
A+ A-
لقد أبتلي العراق بنظام سياسي هلامي غير واضح المعالم وغير متفهم للمبدأ الدستوري الخاص بضرورة الفصل بين السلطات في الدولة، والذي من خلاله تستطيع هذه السلطات من أداء أعمالها (في حالة التزامها بالدستور) وهذا يمنح كل سلطة الحرية الدستورية في ممارساتها سواء التشريعية أو التنفيذية او القضائية.
 
ولكن تعرض الواقع الدستوري للعراق في نظامه السياسي الجديد بعد عام 2003 الى خروقات عميقة وصلت لعدم الاحترام لارادة الشعب الواردة حقوقه في الدستور، فوجدنا أن هناك تناقضات وتداخلات بين أعمال هذه السلطات الثلاث وكل منها يدعي احترامه للدستور الذي جاء واضحاً في أغلب مواده وجاء هلامياً في بعضها الآخر والذي فتح المجال للسلطات الثلاث في ايجاد بدائل هي أقرب (للبدع السلطوية لتنفيذ أجندات سياسية) .
 
لذا وجدنا أن البرلمان العراقي وعلى مدى سنوات طوال في جميع دوراته يبدع في ايجاد البدائل التي تتعارض مع متن وروح الدستور العراقي، فبدأنا في الدورة الاولى للبرلمان بما يسمى الجلسات المفتوحة لمدة جاوزت أشهر متعارضاً مع مواد الدستور، وذلك لغاية في نفس الكتل السياسية لتمرير مرشح رئاسة الوزراء على سبيل المثال، وفي أخر ابداع للبرلمان العراقي هو (تمرير مجموعة قوانين في تصويت واحد) وبما أسموه (السلة الواحدة) وهذا يتعارض جملة وتفصيلاً حتى مع النظام الداخلي للبرلمان العراقي ومع ما أورده الدستور العراقي بتحديد مهام وصلاحيات السلطة التشريعية، لا أستطيع أن أتصور أن (ثلاثة قوانين) ينتهي بها الأمر وبكل ما تحتويه من تشريعات تهم المواطن أن يتم تمريرها بصفقة سياسية مريبة، وبرفع الاصابع حتى دون أن يكون هناك التصويت الأكتروني أو قد لم يكن هناك نصاب قانوني لافتتاح هذه الجلسة أساساً، وللآسف فقد مررت هذه القوانين الحيوية دفعة واحدة في أعلى سلطة تشريعية للبلد وهو البرلمان رغم المخالفة الجوهرية لأبسط مبادئ الديمقراطية التي تحتم التصويت المنفرد لكل قانون يرغب المشرع في إصداره، لأن التشريعات تتم باحتساب درجة الموافقة او الاعتراض من خلال نظام الأغلبية بأنواعها .
 
وللأسف فأن التصدعات في ادارة جلسات البرلمان والاتفاقات البينية خارج قبة البرلمان سمحت في خلق فوضى دستورية شرعت بها هذه القوانين الجدلية وانتقلت منها الى ديوان السلطة القضائية بشقيه مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الآتحادية مما ولد لدينا نزاعاً دستورياً وقانونياً يتعلق بالاختصاص أولاً ومن ثم بالصلاحيات الدستورية للسلطة القضائية، فوجدنا أن البعض ممن لم يتوافقوا مع الكتل السياسية الأساسية في البرلمان هرول الى المحكمة الاتحادية لايقاف تنفيذ هذه القوانين أو تعطيل تنفيذها ولأسباب شتى، وفعلاً أصدرت المحكمة الاتحادية "وحسب الاختصاص الدستوري لها في مراقبة التشريعات وضمان مطابقتها وعدم تعارضها مع الدستور العراقي" الأمر الولائي الصادر ذي العدد (3) وموحداته 4 و18 و19 و21 / اتحادية / أمر ولائي / 2025) في 4 / 2 / 2025 والقاضي بإيقاف تنفيذ القوانين الثلاثة التي تم إقرارها في جلسة مجلس النواب العراقي في 21 / 1 / 2025 .
 
ومعلوم قانونياً أن الأمر الولائي هو أمر تصدره المحكمة المختصة كالقضاء المستعجل لتأخير أو ايقاف تنفيذ واقعة قانونية نافذة بموجب قانون نافذ استكملت جميع مراحل تشريعه "مثل اصدار القانون من البرلمان وتصديقه بموجب الدستور من رئاسة الجمهورية ونشره في الجريدة الرسمية وهي الوقائع العراقية وحسب ما يرد في كل قانون يتم تشريعه وحتى منها بعض القوانين يكون تنفيذها بأثر رجعي لتاريخ تشريعه" وليكون القانون مستكملاً جميع مراحله حتى يستطيع المعترض على القانون اللجوء للجهة المختصة وهنا هي المحكمة الاتحادية للنظر في المخالفات التي تعرض لها التشريع المعروض سواء في خلل تشريعه أو مخالفته لنصوص الدستور أو حتى في عملية التصويت ومنها (البدعة البرلمانية في تمرير القوانين بسلة واحدة) .
 
وهنا وجدنا أن مجلس القضاء الأعلى سارع في محاولة لرأب الصدع البرلماني والدستوري والقضائي لكل ما ورد أعلاه من تفصيل حيث اجتمع مجلس القضاء الأعلى برئاسة السيد رئيس محكمة التمييز الاتحادية القاضي الدكتور فائق زيدان، وتم خلال الجلسة مناقشة موضوع الأمر الولائي الصادر من المحكمة الاتحادية ذي العدد (3) وموحداته  4 و18 و19 و21 / اتحادية / أمر ولائي / 2025) في 4 / 2 / 2025 بإيقاف تنفيذ القوانين الثلاثة التي تم إقرارها في جلسة مجلس النواب العراقي في 21 / 1 / 2025 توصل الى إن موضوع نفاذ القوانين والطعن بعدم دستوريتها تمت معالجته بأحكام المادتين (93/أولاً) و(129) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 إذ يقتضي ابتداءً عند الطعن بعدم دستورية أي قانون يصدر من مجلس النواب أن يتم نشره في الجريدة الرسمية حتى يصبح القانون محلاً للطعن بعدم دستوريته، وهذا ما استقر عليه قضاء المحكمة الاتحادية العليا في العديد من قراراتها ومنها القرار ذي العدد (88/اتحادية/2016) في 20 /12 /2016 والقرار المرقم (31/اتحادية/2018) في 11 /3 /2018 فمن باب أولى لا يجوز إيقاف تنفيذ القانون الذي يتم تشريعه من قبل مجلس النواب العراقي قبل نشره في الجريدة الرسمية، ولان الأمر الولائي الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا أنف الذكر قد نصَ صراحةً على إيقاف تنفيذ إجراءات صدور ونفاذ قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 المعدل وقانون إعادة العقارات الى أصحابها المشمولة ببعض قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل على الرغم من أن هذين القانونين لم ينشرا في الجريدة الرسمية لحد الآن.
 
وبهذا يعتبر الأمر الولائي غير ذي موضوع لأنه قد انصب على قانونين غير نافذين لعدم نشرهما في الجريدة الرسمية، وان مجرد التصويت عليها فقط في مجلس النواب العراقي يقتضي التريث في إصدار أي قرار سلباً أو إيجاباً يتعلق بتنفيذ القانون، كذلك يلاحظ بأنه ورد في قرار المحكمة الاتحادية العليا (الخاص بإصدار الأمر الولائي في 4 /2 /2025) بأن إصدار أمر ولائي مستعجل بناءً على طلب مستقل أو ضمني في الدعاوى الدستورية المقامة أمامها لم يتم التطرق إليه كما لم تتم معالجته في قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005 المعدل، ولا النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022، وبذلك فهو يخضع للأحكام المشار إليها في المادتين (151 و 152) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل استناداً للمادة (39) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا، وخلصت المحكمة الاتحادية في قرارها إلى إن إصدار أمر ولائي مستعجل محكوم فقط بالضوابط والشروط الواجب توافرها لإصداره الواردة في قانون المرافعات المدنية المذكور، وبالرجوع الى تلك الضوابط والشروط نجد إنها أجازت لمن له الحق في الاستحصال على أمر من المحكمة للقيام بتصرف معين بموجب القانون أن يطلب من المحكمة إصدار هذا الأمر في حالة الاستعجال على وفق الإجراءات المبينة في المادتين (151 و152) من قانون المرافعات المدنية، وإذ أن المادة (129) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 منعت إيقاف تنفيذ القوانين أو تأجيل تنفيذها أو التريث بها (قرار المحكمة الاتحادية العليا ذي العدد (75/اتحادية/أعلام/2015) المؤرخ 12 /8 /2015)، مما يكون طلب إيقاف تنفيذ القوانين ومن ضمنها قانون التعديل الثاني لقانون العفو العام رقم (27) لسنة 2016 غير وارد قانوناً لتعارضه مع النص الدستوري واستقرار المحكمة الاتحادية العليا وعدم مراعاة الإجراءات القانونية المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية، فضلاً عن أن المادة (153/مرافعات) أجازت للمتضرر من الأمر الولائي الطعن فيه بالتظلم أمام المحكمة الذي أصدرته ومن ثم الطعن فيه تمييزاً في حين أن المحكمة الاتحادية وصفت أمرها الولائي بالبات والملزم للسلطات كافة خلافاً لنصوص قانون المرافعات المدنية الذي استندت عليه والمادة (39) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا، إضافة إلى ذلك أن الأوامر الولائية هي قرارات وقتية ولا تتمتع بالحجية الباتة والملزمة التي هي صفة تلازم الأحكام النهائية الفاصلة في موضوع النزاع وإذ أن المحاكم ملزمة بتطبيق قانون العفو العام المصوت عليه من قبل مجلس النواب العراقي بتاريخ (21 /1 /2025) وأن المادة (129) من الدستور منعت تعطيل تنفيذ القوانين ما دام لم يصدر قرار بات بعدم دستوريتها أو إلغاءها من الجهة التي أصدرتها، وبالتالي يكون لزاماً على المحاكم المضي بتنفيذ قانون تعديل قانون العفو العام على وفق نصوصه والتعليمات التي أصدرها مجلس القضاء الأعلى بهذا الخصوص.
 
ولهذا فأنني أجد أن ما ورد في بيان مجلس القضاء الأعلى من تفصيل دستوري وقانوني واضح وصريح وجامع مانع في موقفه مستنداً الى النص والمتن والروح للمواد الدستورية والقانونية التي تعالج هذا النزاع (السياسي ومن ثم القضائي)، فنحن أمام تنازع قانوني في الاختصاصات القضائية والتفسيرات الدستورية للتشريعات البرلمانية التي وضعت الدولة العراقية بمخالفاتها وخروقاتها تداخلاً بين السلطات ومخالفة صريحة للمبدأ الدستوري وهو ضرورة الفصل بين السلطات في الدولة، لذا نجد أن البرلمان لم يتخذ أو يلتزم بالقواعد الأساسية من بداية اقتراح القوانين وحتى تشريعها لاحقاً، ولم نجد أن رئاسة الجمهورية قد أصدرت التصديق الرسمي على هذه التشريعات ولم يطلع الشعب على متن هذه القوانين، وبالتالي فان الاشكالية الأساسية لهذا النزاع والتداخلات القضائية تعود الى عدم وجود مشرع حقيقي يدرك مدى وأهمية دوره البرلماني والتشريعي.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

أنور الجاف

العيد الذي فرّقنا

في زمنٍ تُعد فيه الثواني بالأقمار الصناعية، وتُرصد فيه المجرات بمراصد من فوق سبع سماوات وتقرّب ناساً آلاف السنين الضوئية في لمح البصر، لاتزال أمة الإسلام تختلف على ميلاد هلال في واحدة من أكثر المفارقات إيلاماً وسخرية، وليس الخلاف إذاً على الهلال ذاته، بل على منْ يُعلن رؤيته وعلى أية منبر تُعلَن ومن الذي يُقدّم البلاغ وأيّ سلطان يُبارك النداء.