شهدت الأسابيع الأخيرة تحوّلا لافتا في مسار العلاقة المعقّدة بين إيران والولايات المتحدة، بعد أن وجّه الرئيس الأميركي دونالد تامب رسالة مباشرة إلى السيد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، يعرض فيها التفاوض على اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي الإيراني، مقابل حزمة من التسهيلات ورفع العقوبات. رسالة فُسّرت على نطاق واسع بأنها ليست مجرد دعوة للحوار، بل إنذار سياسي يحمل بين سطوره تلويحا باستخدام القوة، إن لم تُبادر طهران إلى التهدئة.
الرسالة التي نُقلت عبر وساطة إماراتية، لم تُوجَّه إلى الرئيس الإيراني المنتخب، الدكتور مسعود بزشكيان، بل إلى الولي الفقيه مباشرة. وهذا الخيار لم يكن عفوياً، بل يعكس وعي الإدارة الأميركية بطبيعة النظام السياسي الإيراني، حيث تتخذ القرارات الكبرى، وعلى رأسها ما يتعلق بالملف النووي والسياسة الخارجية، في مكتب السيد المرشد لا في رئاسة الجمهورية. فالسيد خامنئي هو صاحب الكلمة الفصل، والمخاطبة المباشرة له تضعه أمام اختبار صعب: إما التجاوب مع المبادرة الأميركية، أو تحمّل تبعات التصعيد المحتمل.
وتشير التسريبات إلى أن الرسالة لم تكتفِ بطرح العودة إلى المفاوضات، بل اشترطت على إيران وقف دعمها للوكلاء الإقليميين، من حزب الله في لبنان، إلى الحوثيين في اليمن، إلى الفصائل المسلحة في العراق. وفي المقابل، عُرض على طهران رفع جزئي للعقوبات، وإعادة إدماجها في الأسواق الدولية، بشرط تنفيذ هذه المطالب خلال مهلة لا تتجاوز شهرين.
ردّ الفعل الإيراني على رسالة الرئيس ترمب اتّسم بالتحفّظ والتكتيك المعهود. تم تشكيل لجان داخل مجلس الأمن القومي لدراسة فحوى الرسالة وصياغة مقترح للرد، بما يدل على أن طهران لا تُغلق باب التفاوض تماماً، لكنها في الوقت ذاته لا تُظهر نية لتقديم تنازلات ستراتيجية. إيران رفعت من وتيرة التصعيد، فأعلنت عن امتلاكها ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع ست قنابل نووية، وكشفت عن صواريخ بعيدة المدى أكثر دقة، وهدّدت بشكل غير مباشر بقصف القواعد الأميركية المنتشرة حولها، والتي تضم نحو خمسين ألف جندي أميركي.
لكن خلف هذه اللهجة النارية، ثمّة إدراك إيراني أن الوقت لا يعمل لصالحها، خاصة في ظل الانهيار الاقتصادي وتراجع حلفائها في الإقليم، وتزايد العزلة الدولية. ومع ذلك، فإن المواجهة الكبرى مازالت مستبعدة، لا لأن التصعيد مستبعد بحدّ ذاته، بل لأن المنطقة تعيش وضعاً مأزوما ومعقداً لا يحتمل شرارة جديدة.
سوريا، التي طالما مثّلت معقلًا ستراتيجيا لنفوذ طهران، دخلت مرحلة من التآكل الكامل للدولة المركزية. التفاهمات الروسية التركية، والوجود الأميركي المحدود، والقصف الإسرائيلي المتكرر، كل ذلك حوّلها إلى ساحة مستباحة مفتوحة على كل الاحتمالات. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال التصعيد الأخير بين إسرائيل وتركيا، حيث قامت تل أبيب بالفعل خلال الساعات الماضية بقصف قواعد عسكرية في سوريا يُحتمل أن تُستخدم مستقبلًا من قبل القوات التركية، في خطوة تُعد تطوراً خطيراً من شأنه أن يُفجّر أزمة إقليمية جديدة. هذا التصعيد العسكري المباشر، وإن لم يُعلن رسميا عن أبعاده الكاملة، إلا أنه يُنذر بتدهور إضافي في العلاقات الإقليمية، وسنعود إليه بالتفصيل في مقالات لاحقة، لما يحمله من دلالات سياسية وستراتيجية بالغة الخطورة.
في غزة، تبدو المقاومة الفلسطينية محاصرة بعد الحرب المدمّرة التي أعقبت 7 أكتوبر، والتي جعلت من الدعم الإيراني أمراً رمزيا أكثر منه فعلياً، نتيجة القيود المفروضة، وخطورة أي محاولة لكسر الحصار، في ظل الرقابة الدولية وتزايد العداء لإيران في الإقليم.
أما جنوب لبنان، فالوضع أكثر حساسية. الخروقات الحاصلة على الحدود ليست متبادلة كما تسوّق بعض الجهات، بل هي من طرف واحد يتمثل في الكيان الإسرائيلي، التي لاتزال تنفذ ضربات محددة وتحافظ على مستوى من التصعيد تحت سقف الحرب. وقد نفت المقاومة الإسلامية – حزب الله – مسؤوليتها عن بعض الصواريخ التي أُطلقت باتجاه شمال فلسطين المحتلة، فيما أكدت رئاسة الجمهورية اللبنانية أن جهة ثالثة غير منضبطة تقف وراء تلك العمليات بهدف خلط الأوراق واستفزاز الطرفين.
في العراق، الحكومة تسعى جاهدة لتفادي أي تصعيد جديد قد يجرّ البلاد إلى الفوضى. التوازن الهشّ بين واشنطن وطهران لم يعد مضمونا، خاصة بعد تزايد الضغط الأميركي، والقلق الشعبي من تداعيات أي مواجهة على الأراضي العراقية.
وفي اليمن، الضربات الأميركية المتكررة على معاقل الحوثيين باتت رسالة واضحة إلى إيران: أن أدواتها في الإقليم لم تعد بمأمن من العقاب. وها هي حاملة طائرات أميركية جديدة تتجه إلى المنطقة، ترافقها ست قاذفات قنابل من طراز B2، في استعراض قوة يعيد إلى الأذهان سياسة الردع المباشر.
أما في الداخل الإيراني، فالوضع لا يقل توتراً. الاقتصاد يرزح تحت وطأة العقوبات، والتضخم ينهش دخل المواطن، فيما تتزايد نسب الفقر والبطالة، ويزداد الشارع ضيقا بسياسة المغامرات الخارجية. طهران لم تعد تملك رفاهية المماطلة، ولا تستطيع تجاهل الحاجة الملحّة إلى تخفيف الضغط، وهو ما يجعل من التفاوض مطلبا داخليا بقدر ما هو تحدٍ خارجي.
رغم ذلك، لا يبدو أن المنطقة تتجه نحو صفقة شاملة، بقدر ما تتجه نحو تسوية مؤقتة، تُبقي الصراع تحت السيطرة دون حسم. التفاوض، إن حدث، سيكون محدودا، غير مباشر، ومحصورا في النقاش حول نسب التخصيب وآليات التفتيش، دون أن يطال البرنامج الصاروخي أو النفوذ الإقليمي. إيران، من جهتها، تتحدث عن مفاوضات، لكنها ترفض "الابتزاز”، وتتمسك بـ”حقوقها السيادية”.
في المقابل، تُبقي إدارة الرئيس ترمب خيار القوة حاضرا، لكنها تدرك أن أي حرب مفتوحة قد تجرّ المنطقة كلها إلى أتون فوضى لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وكذلك إسرائيل، التي تلوّح بالضربة الوقائية، لكنها تخشى تداعيات انفجار الجبهات من لبنان إلى اليمن.
في المجمل، يمكن القول إنّ إيران تناور، والولايات المتحدة تضغط، والمنطقة تعيش على حافة توتر مؤجل. وبين التصعيد والتهدئة، يبقى التفاوض غير المباشر هو المسار الأرجح، ولو إلى حين.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً