35 عاماً على نهاية الحرب العراقية الايرانية.. اكثر من مليوني ضحية و400 مليار دولار ولا منتصر فيها

08-08-2023
معد فياض
الكلمات الدالة العراق إيران
A+ A-
 
معد فياض

قبل ان يحتفل العراقيون في جميع المدن، خاصة بغداد، باعلان وقف اطلاق النار ونهاية الحرب العراقية الايرانية في يوم 8 آب 1988، كنت وقتذاك مراسلا حربيا، كوني كنت صحفيا قبل تجنيدي، برتبة جندي مكلف خريج (ج م خ)، حسب التسمية العسكرية في القاطع الاوسط من جبهات القتال، بالضبط قرب مدينة بدرة التابعة لمحافظة واسط (الكوت)، اتابع من خلال راديو الترانسستور الانباء حول قبول ايران، خميني بالذات، بتطبيق قرار مجلس الامن الدولي رقم 598 الذي تم اعتماده بالاجماع في 20 تموز 1987، اي قبل عام تقريبا من تنفيذه والذي دعا مع القرار 582 الى "وقف فوري لاطلاق النار بين العراق وايران والعراق وإعادة أسرى الحرب إلى وطنهم، وانسحاب الطرفين إلى الحدود الدولية". وطلب القرار "إلى الامين العام للامم المتحدة أن يوفد فريقًا من المراقبين لرصد وقف إطلاق النار بينما يتم التوصل إلى تسوية دائمة لإنهاء الصراع".
 
كانت القيادة الايرانية متزمتة في تنفيذ قرار وقف اطلاق النار بالرغم من موافقتها الفعلية على القرار، لهذا شن العراق سلسلة هجمات في قواطع مختلفة من الجبهة، الجنوبية والوسطى خاصة، حيث كنت قد دخلت مع قواتنا الى مدينة صالح آباد الايرانية يوم 14 تموز 1988، التي تبعد عن الحدود العراقية الايرانية مسافة اكثر من 40 كيلومترا، بينما اعاد الجيش العراقي توغله في جبهات اخرى، كان قد انسحب منها سابقا، لمسافات تقترب من مائة كيلومتر، وذلك للضغط على ايران بقبول تنفيذ قرار وقف اطلاق النار.
 
وقف الحرب
 
عندما تم الاعلان عن موافقة ايران على تنفيذ القرار 598 وأصبح نافذاً في 8 آب 1988، منهياً بذلك جميع العمليات القتالية بين البلدين والحرب العراقية الإيرانية، اشتعلت سماوات الجبهات بالرصاص وبانواع القذائف فرحا بهذه المناسبة، ومعروف كيف عبر العراقيون داخل المدن وفي العاصمة عن فرحتهم بهذه المناسبة.
 
كان الجندي حسن يجلس قريبا مني عندما فاجأني وهو يرمي عشرات الاطلاقات النارية في الفضاء تعبيرا عن فرحته وتماشيا مع ما يجري داخل الفوج، صاح بي طالبا مني ان اشاركهم الفرحة وارمي ما في شاجور بندقيتي الكلاشنكوف من رصاص "احتفالا بالنصر"، هكذا هو ردد الوصف الذي ردده المذيع مقداد مراد الذي كان صوته ينطلق من راديو الترانسستور: "انه يوم الايام.. وبيان البيانات.. ويوم النصر العظيم".
 
مع اني لم اخفي سعادتي لانتهاء هذا الكابوس الذي خرب حياتنا وصادر 11 سنة من حياتي في التجنيد الاجباري، الا ان وصف "النصر العظيم" استوقفني بالفعل، وتسائلت: اي نصر عظيم ونحن امضينا شبابنا في حرب عبثية استمرت ثمان سنوات (1980- 1988)، وتعد اطول حرب في القرن العشرين وأحد أكثر الصراعات دموية وكلفة من الناحية الاقتصادية والبشرية، تقترب من 400 مليار دولار ومليوني قتيل من كلا الطرفين، في الاقل ستة منهم من ابناء عمومتي و11 من اصدقائي، بل ان الجندي حسن الذي كان يرمي الرصاص من بندقيته، وهو شاب من ابناء مدينة القرنة شمال البصرة، كان قد فقد شقيقه وابن عمه في معارك (نهر جاسم) الدامية.
 
الضحايا الابرياء
 
مرت على ذاكرتي الصورية الالاف من صور القتل والموت والقصف على المدن وارواح الابرياء العراقيين والايرانيين التي ازهقت بلا طائل في جزء من القتال اطلق عليه تسمية "حرب المدن" وهنا اتذكر اني التقيت عام 1997 صحفية ايرانية كانت تعمل في القسم الفارسي باذاعة الـ (بي بي سي) في لندن، وكنا نتحدث عن الحرب العبثية بين العراق وايران، وكيف دفع الشعبان ثمن هذه الحرب، وذكرت لها حادثة قصف ايران لمدرسة بلاط الشهداء الابتدائية في منطقة الدورة، جنوب بغداد، بصاروخ أرض أرض إيراني صباح يوم 13 تشرين الأول سنة 1987 ، وقتل اعداد كبيرة من الاطفال، استغرقت بسماع القصة واجابت بصوت حزين: "كان صاروخ ارض ارض عراقي قد سقط على مدرسة ابتدائية ايرانية بعد شهر من سقوط الصاروخ الايراني على مدرسة ببغداد، وادى الى مقتل العشرات من الاطفال، وكانت بنت اختي التي تبلغ وقتذاك 10 سنوات من العمر، من بين الضحايا".
 
إطالة الحرب

 

مشهد من الحرب العراقية - الإيرانية

 
كنا نتصور واهمين ان الحرب لن تدوم لاكثر من ايام معدودة ثم تتدخل الدول الكبرى لايقافها، وذات يوم في بداية شهر تشرين الاول 1980 ظهر على شاشة تلفزيون بغداد عزة الدوري، وكان نائبا لصدام حسين في قيادة حزب البعث، وطلب من العراقيين الصبر لان الحرب قد تطول لاسبوعين او أكثر، وقد تشائمنا من تصريحه وتساءلنا كيف سوف نصبر لثلاثة اسابيع والحرب مشتعلة؟. إذ كانت القيادة العراقية قد طلبت وقف اطلاق النار منذ الاشهر الاولى للحرب واستمر العراق في مناشداته من أجل التوصل الى اتفاق ينهي الحرب ويحقق السلام بين البلدين في منتصف الثمانينيات وبادر الى سحب قواته من جميع الأراضي الإيرانية، التي استولى عليها وبدأ يسعى لانهاء الحرب، لكن إيران بقيادة الخميني، ظلت ترفض مساعي السلام وواصلت الحرب في محاولة للإطاحة بالرئيس العراقي.
 
وفي هذا الشأن، واعني مسؤولية من بدأ بالحرب واستمراريتها، قال لي الدبلوماسي العراقي المعروف الذي عمل لاكثر من 50 عاما في الامم المتحدة كممثل دائم عن العراق، ووزير الخارجية الاسبق عدنان الباجه جي في لقاء بامارة ابو ظبي عام 2017: "في عام 1980 اشتعلت نيران الحرب العراقية الإيرانية، وعم الحماس جميع العرب، كنت وقتذاك في أبو ظبي وكان الناس هناك يقولون لي: والله العراق رفع راسنا. وكانت انتصارات القوات العراقية تلقى وقعا حسنا في نفوس غالبية العرب مواطنين وقادة. الخليجيون كانوا من أكثر الناس دعما للعراق ماديا ومعنويا، حيث قدمت دول الخليج الكثير من الأموال من أجل أن يصمد العراق في هذه الحرب"، مشيرا الى ان "حسابات صدام حسين في هذه الحرب كانت هي أن يبادر إلى الهجوم قبل أن يبادر الإيرانيون، حسب المثل الذي يقول (نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا)، فهو كان يعرف أن الخميني يكرهه وأنه سيعمل كل جهده لخلق الفوضى في العراق أو الهجوم عليه، وكان الوقت مناسبا بالنسبة لصدام لشن الحرب، حيث كانت الفوضى سائدة في إيران، والثورة الإسلامية في بدايتها، وغاب كبار الضباط الإيرانيين من عهد الشاه عن ايران والقوات الايرانية، إما تم إعدامهم أو هربوا من البلد، وحسابات صدام كانت صحيحة في هذا الجانب، لكنه أخطأ في جانب مهم وهو أن الإيرانيين، سواء كنا نكرههم أو لا، يتمتعون بشعور قومي قوي جدا، حتى لو كان بعضهم لا يحب أو لا يؤمن بالخميني فإنهم قاتلوا انطلاقا من مشاعرهم القومية، ولن يسمحوا للعراق، الذي هو في نظرهم بلد عربي صغير، أن ينتصر عليهم".
 
وكشف الباجه جي قائلا: "وعلينا أن نقول الحق، ذلك أن صدام حسين عندما أدرك أن نهاية هذه الحرب ستكون بعيدة وسوف تطول سنواتها، أعلن منذ عام 1982، أي بعد عامين من اشتعالها، إيقافها وطالب العراق في الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار والتفاوض وكانت إيران ترفض. وأنا أعتبر استمرار الحرب لثماني سنوات مسؤولية الخميني الذي كان يضع شروطا تعجيزية لإيقافها مثل أن يعترف العراق بأنه هو البادئ بالحرب قبل القيام بأي مفاوضات، وإحالة صدام حسين إلى المحكمة، وكان يعرف أن هذه شروط تعجيزية لن تنفذ، لهذا فالمسؤولية وحسب القوانين الدولية لاستمرار الحرب هي مسؤولية إيرانية تماما، وإذا صار في المستقبل الحديث عن تعويضات أو أن تدعي إيران بمسؤولية العراق عن الحرب فيجب مواجهتهم بالحقائق الرسمية، وهي أن العراق أراد إيقاف القتال وإنهاء الحرب منذ عام 1982، وهذا موثق في الأمم المتحدة، وإيران هي التي رفضت"، معتبرا ايران "هي من تتحمل هذه المسؤولية ومسؤولية الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها العراق وإيران، ويجب الوقوف بوجه إيران والقول لها: إنتم المسوولون عن استمرار هذه الحرب". 
 
خسائر فادحة
 
حسب مجلة مجلة "ناشيونال إنترست" الاميركية، المتخصصة في البحث بمجالات الحروب، وفي بحثها عن خسائر الحرب العراقية الايرانية فان هذه الحرب "أسفرت، عن خسائر فادحة، حيث قتل فيها مليون شخص، فضلا عن خسائر مالية وصلت إلى 350 مليار دولار، وبحلول عام 1988، كان الطرفان يعانيان خاصة إيران، بعد تعرضها لخسائر عسكرية كبيرة، وإفلاس البلاد، ما دفع الخميني إلى قبول محادثات وقف إطلاق النار، وفي 8 آب كانت الحرب قد وضعت أوزارها بالفعل".
 
وتضيف المجلة: "لقد عانى الطرفان في نهاية الحرب من خسائر فادحة، خاصة الطرف الإيراني الذي عانى خسائر بمقدار 3 إلى 6 مرات مقارنة بالعراق، وان عدد الضحايا لدى الجانب الايراني أكبر من العراقي بسبب استمرار العراقيين في حالة الدفاع خلال معظم مراحل الحرب، بينما كانت ايران تشن الهجوم تلو الهجوم مستخدمة موجات بشرية هائلة.حيث تخطت الخسارة البشرية الإيرانية المليون قتيل، فضلا عن 2 مليون إيراني دون مأوى. وعلى الجانب الآخر أصبحت مدينة البصرة مهجورة بالفعل، فيما أصبح عدد كبير من العراقيين دون مأوى أيضا"، وخلص تقرير "ناشيونال إنترست" إلى أن "الجانبين لم يستطيعا تحقيق أكثر أهداف الحرب تواضعا، فالحدود لم تتغير، والجيشين انتهى بهم الحال بعد الحرب دون تغيير باستثناء الخسائر التي تعرضوا لها، فضلا عن أن الطرفين قد أنفقا نحو 350 مليار دولار  في حرب لا طائل منها".
 
وفي نهاية المطاف، انسحب الجانبان إلى الحدود الدولية بعد اسابيع من تنفيذ، القرار 598، منهياً بذلك جميع العمليات القتالية بين البلدين. وكانت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التابعة لبعثة يونيموغ قد تولت الميدان وبقيت على الحدود الإيرانية العراقية حتى عام 1991. واعتبر صدام حسين اتفاقية الجزائر لعام 1975 ملغية، قبل ان يعود ويتنازل لايران عن حقوق سيادية في شط العرب بعد غزوه للكويت ويودع الطائرات الحربية والمدنية لدى ايران التي صادرتها واعتبرتها جزءا من تعويضات الحرب، وراحت دماء اكثر من مليون عراقي في مهب الخسائر العبثية.
 
حرب بلا منتصر
 
اتساءل شخصيا: هل هناك ما تبقى من آثار وبقايا هذه الحرب العبثية وتاريخ جنديتي؟ نعم، بقيت مشاهدات وذكريات لن تنسى، تدور في راسي مثلما رحى معارك وصرخات جنود جرحى ودموع امهات وزوجات وابناء الضحايا الذين نسميهم "الشهداء". بقيت في داخلي مثل مدن خربة ما يزال الدخان المختلط بالغبار يتصاعد حتى عيني. بقيت صور الجثث المتكدسة فوق بعضها، جثث جنود عراقيين وايرانيين، تمتزج دمائهم السوداء المتعفنة تحت اشعة شمس حارقة، وبانوراما سوداء توشح جدران العراق من زاخو الى الفاو، في ادنى جنوبه، ومن هيت، في اقصى غربه وحتى المنذرية، بوابة العراق في شرقه. بانوراما تحمل اسماء الضحايا، الشهداء، وجمل مكرورة ترثيهم. بانوراما من قطع قماش أسود، احالته اشعة الشمس والمطر الى الاسود المصفر.
 
غير هذا هناك بضعة رسائل من جنود، هي اغاني وداع حزينة ووصايا ابدية كتبوها الى عوائلهم قبيل تنفيذهم مهمة فدائية في عمق الاراضي الإيرانية وسلموها لي فكانت اصعب واكثر الامانات ثقلا على كاهلي. بقيت أحزان الامهات اللواتي اتذكر مشاهدهن وهن يبكين بحرقة مودعات ابنائهن الى جبهات الموت. الم يقل نابليون بونابرت ان "الحروب تدور في صدور الامهات"؟ مشاهد رسمها لنا زعماء مهووسون برائحة الدم، وكما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون: "الحرب هي تسلية الزعماء الوحيدة التي يسمحون لأفراد الشعب بالمشاركة فيها".

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب