كتاب "العراق القديم".. رحلة معرفية مصورة لتطور حضارات بلاد ما بين النهرين

30-09-2023
الكلمات الدالة ثقافة العراق كتب
A+ A-
معد فياض

منذ عشرينيات القرن الماضي، وبالضبط عندما بدأت البعثات الاوربية، البريطانية والألمانية والفرنسية، ثم بعد سنوات بدأت بعثات الجامعات الأميركية، بالتنقيب والعثور على آثار العراق القديم، او بلاد ما بين النهرين، صدرت الكثير من الدراسات والكتب البحثية، الاكاديمية عن تلك الآثار. تلك الكتب التي الفها الآثاريون، المنقبون انفسهم، والتي تتضمن شروحات لما عثروا عليه من لقى نادرة تحت ارض بلاد ما بين النهرين كشفت عن ايجاد حلقات كانت مفقودة في تاريخ التطور الانساني. وسنحتاج الى اكثر من ثلاثة قرون للتنقيب عن الآثار التي خبأها الزمن وعوامل الطبيعة تحت تلال العراق، ذلك ان مقولة" اينما تحفر في ارض عراقية فسوف تعثر على الآثار القديمة"، تبدو صحيحة الى حد ما، على حد قول العالم الآثاري الراحل وليد الجادر، الذي اكتشف في منتصف الثمانينات مكتبة سبار، في المنطقة الواقعة ما بين مدينة المحمودية وبابل الآثرية، واعد هذا الاكتشاف من أعظم ما حدث في عالم الآثار في القرن العشرين.
 
تاليف الكتب تجاوز علم الآثار الى كتابة الروايات البوليسية للمؤلفة الانجليزية الاكثر شهرة آجاثا كريستي التي كانت قد زارت مدينة أور السومرية، جنوب العراق عام 1925، والتقت بعالم الآثار البريطاني ماكس مالوان، الذي كان ينقب هناك واحبا بعضهما وتزوجا، وكتبت روايتها البوليسية الشهيرة "جريمة في بلاد ما بين النهرين".
 
بعد وصول البعثات الاوربية الى المواقع الآثارية في العراق، سومر، جنوبا، وبابل في الوسط، ونينوى شمالا، جاءت طليعة من الآثاريين العراقيين واخذت مهام التنقيب وتصنيف الاكتشافات وفك رموز وطلاسم الكتابات المسمارية، أمثال طه باقر وبهنام ابو الصوف ووليد الجادر وفوزي رشيد وبهيجة خليل اسماعيل وفؤاد سفر ومزاحم محمود، هؤلاء واصلوا مهمات التنقيب في مواقع آثارية مهمة موزعة على مراكز حضارية موزعة على جغرافية بلاد ما بين النهرين. وصدرت لعلماء الآثار العراقيين بحوث ومؤلفات مهمة عن آثار العراق، لاسيما العالم طه باقر وبهنام ابو الصوف وفوزي رشيد.
 
آخر ما صدر من مؤلفات عن الآثار العراقية، كتاب "العراق القديم" من اعداد الكاتب الانجليزي فيليب نيكولاس ستيل المولود عام 1948، في دوركينغ، ساري، إنجلترا. الذي كان قد التحق بكلية فيلستيد الجامعية، دورهام، وتخرج في اختصاص اللغات الحديثة في عام 1971. في سبعينيات القرن الماضي، عمل كمحرر للعديد من ناشري الكتب في لندن، بما في ذلك هودر وهاملين. وإشرف على الكتاب البروفيسور إليانور روبسون.
 
كتاب "تاريخ العراق القديم" صدر باللغة العربية، مؤخرا، عن دار الرافديم للنشر، بالاتفاق مع (دورلينغ كيندرسلي المحدودة في لندن.وما يمنح المزيد من الثقة والمصداقية للكتاب هو اسناد ترجمته للغة العربية للاستاذ عبد السلام صبحي طه، والاشراف العلمي للبروفيسور عامر عبد الله الجميلي، رئيس قسم الآثار في جامعة الموصل، واللغوي للكاتبة لطفية الدليمي وعواد علي.

 

لعبة حسابية بابلية قديمة

  
يقول البروفيسور عامر عبد الله الجميلي في تقديمه للكتاب "كُتب الكثير من المؤلفات عن العراق القديم، بأقلام كُتاب غربيين وعراقيين، كمناهج تعليمية لمراحل معينة في المدرسة والجامعة، وقد عالج أغلبها، المناحي السياسية والجوانب الحضارية، لكن ما ينفرد به هذا الكتاب (العراق القديم) هو بساطته في عرض مادته العلمية، وقد راعى جانباً مُهمّاً في ترسيخ مدارك الناشئة، بعرضه لابتكارات العراقيين القدماء، واستعراضه الأدوار الحضارية للبلاد وذلك بربط الصورة بالمعلومة والمعطى الثقافي"، منبها الى ان "الكتاب يُركز على توظيف الصورة التوضيحية بطريقة رائعة، مما يسهل مهمة إيصال المعلومة بسلاسة، ليكون بمنزلة رافد معرفي لأجيال العراق الواعدة. وانتهج الكتاب أسلوب المدرسة العراقية في دراسة تاريخنا القديم في كتابة صيغ أسماء الأعلام، والمواضع الجغرافية كما وردتنا باللغات الأصلية (السومرية والأكدية)، والابتعاد عن الصيغ الدخيلة، وأضفت في نهاية الكتاب ملاحق مفيدةً للقارئ".
 
بالرغم من ان كتاب (العراق القديم)، يقع في 76 صفحة من القطع الكبير، تعليمي بالدرجة الاولى، وجاء كأطلس للمواقع الآثارية ومنشأها ومدنها، الا انه يمنح للقارئ الاعتيادي مساحة معرفية واسعة ودقيقة من خلال المعلومات والعشرات من الصور للمواقع الآثارية والازياء والمنحوتات والرقم الطينية ووسائل الاستخدامات اليومية ونماذج من الكتابات المسمارية باللغات السومرية والبابلية والآشورية والجداريات والابداعات الفنية مثل الموسيقى والنحت والرسوم بحيث ينقلك مثل آلة الزمن الى عصور مختلفة من تطور حضارة بلاد ما بين النهرين وتشعر بانك معهم بالفعل، ولهذا استخدم المؤلف، فيليب ستيل، تعريفا غنيا في اعلى الغلاف الاول للكتاب "شاهد عيان"، فمجموع المعلومات الواردة والصور المنشورة تجعل من القارئ شاهد عيان او مشارك فعليا في رحلة تاريخية غنية بالمعارف وممتعة بمفاجآتها في تنامي الانجاز الحضاري لسكان وادي الرافدين.
 

 

عصر الكتابة

 
يستهل الكتاب بمعلومات غنية عن"العراق القديم"، ثم يفتح امام القارئ بوابات تمضي به الى "عصر فجر السلالات السومرية (دولة المدن)" مستعرضا اسماء وسير وصور منحوتات "الحكام الاقوياء"، ويدخلنا الى قصة الكتابة والعقائد الدينية والحياة في المدينة التي هي لا تختلف كثيرا عن حياتنا اليومية المعاصرة باستثناء التطور التكنولوجي، ويقارنها مع الحياة في ريف بلاد ما بين النهرين.
 
حرص الكاتب، فيليب ستيل، على التسلسل المعرفي الأكاديمي لتاريخ العراق القديم، مستعرضاً العصر الأكدي (الأمبراطورية الاولى)، متنقلاً بين الزقورات والمعابد دون ان ينسى الالعاب والرياضة والموسيقى، وتقنيات الحرف اليدوية، قبل ان نذهب، كمتلقين او مشاركين في الحدث المعلوماتي، الى الدولة البابلية القديمة، حيث ازدهر العلم والعلماء والتجارة والأعمال ووسائط النقل والسفر، هذه هي بابل التي كانت شاغلة الدنيا. ومع الذهاب الى الإمبراطورية الآشورية سنتعرف، بلا شك، على الحروب القديمة وفنون الصيد وادواتها ثم ندخل الى القصور الآشورية المحروسة بالثيران المجنحة، ونقرأ على جدران تلك القصور الفخمة تواريخ ملوك  بلاد ما بين النهرين، وابرزهم جلجامش وملحمته الاولى من نوعها في التاريخ الانساني، ثم نغادر بلاد آشور وصولا الى الإمبراطورية البابلية الحديثة.
 
 لقد حرص الناشر العراقي، محمد هادي، صاحب ومدير ( دار الرافدين) في بغداد وبيروت، على تقديم كتاب (العراق القديم) باسلوب فني متطور من حيث الورق السميك(آرت) وطباعته بتقنية مميزة وحروفه الواضحة، ومنذ غلافه الاول يغريك بقراءته والغوص في تفاصيله. مثل هذه الكتب تجيب عن اسئلة متراكمة في ذهن المتلقي غير المتخصص بالآثار العراقية، وخارج حدود النخبة المحدودة من المهتمين بهذا الجانب الحضاري، وبالتالي سيكون مصدرا لا غنى عنه في مكتبة العائلة العراقية بشكل خاص.

 

القيثارة السومرية اول آلة موسيقية متطورة في التاريخ

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب