رووداو – أربيل
بعد سنوات طويلة قضاها في المهجر، عاد الفنان الكوردي من مدينة القامشلي بكوردستان سوريا، غني ميرزو، إلى إقليم كوردستان وهو يحمل في جعبته خبرته الموسيقية أملاً في تخفيف آلام ضحايا الحرب وتحويل فنه إلى بلسم يداوي جروحهم، لتعلو الألحان على صخب الدمار الذي طال المكان والإنسان.
الملحن الذي يجيد العزف على العود والبزق والغيتار، دشن عدة مشاريع منها افتتاح مركز ثقافي لتعليم الأطفال الكورد الإزيديين في سنجار الموسيقى، وهو يتطلع إلى النهوض بالواقع الفني في كوردستان عموماً عبر تضافر جهود الجميع.
بداية الحكاية.. دخول عالم الموسيقى مبكراً
دخل ميرزو المجال الفني منذ نعومة أظفاره حينما كان يبلغ من العمر السابعة ربيعاً.
يقول ميرزو لشبكة رووداو الإعلامية: "في سوريا كانت لدينا فرق فلكلورية كوردية، درستُ الموسيقى في حلب خلال الأعوام من 1987 حتى 1990، وبعدها عملت مدرساً للموسيقى حتى هاجرت إلى إسبانيا عام 1993".
عن حال الموسيقى الكوردية، يتذكر ميرزو بحنين تلك الفترة بالقول: "كانت متطورة حينها؛ حيث كان هنالك زخم في العطاء في أجزاء كوردستان الأربعة، فالمقاومة الكوردية كانت حيّة والحركة التحررية الكوردية في أوجها، وكانت أغلب الفرق الموسيقية تتخذ القومية أساساً لها وتحولت إلى مراكز ثقافية خاصة وكانت تحيي المناسبات مثل نوروز وعيد العمال وغيرها".
قبل 26 عاماً هاجر الفنان الكوردي إلى إسبانيا، ويقول إن هذا القرار جاء "لإكمال الدراسة حيث درست الفلامينغو لسد النقص الموسيقي الذي كان ينتابني بسبب عدم وجود مساحة كافية من الديمقراطية للتعبير عن الفن الكوردي إثر ملاحقة الثقافة والسياسة الكوردية من قبل النظام".
الموسيقى الكوردية تكتسي لوناً جديداً
المزج بين الموسيقى الكوردية والآلات الغربية، وإضفاء لون جديد عليها، وإيصالها إلى مسامع الجمهور الأوروبي والعالمي هو ما قام به الفنان غني ميرزو.
ويوضح: "في إسبانيا بدأت الدراسة الأكاديمية من عام 1994 وحتى 2000، وخلال تلك الفترة شكلنا فرقة موسيقية بعنوان (ميرزو تريو) عام 1995 ، للمزج بين الغيتار والفلامينغو والموسيقى الكوردية بشكل عام، بهدف البحث عن لون آخر للموسيقى الكوردية، ومع مرور الزمن توسعت الفرقة وأصبحت تضم سبعة موسيقيين كنت الكوردي الوحيد فيها، والبقية كانوا من كتالونيا وكوبا والجزائر والمغرب وآخرون من الهند".
ويبين: "لقد كان الارتجال الفني هو ما يربط بين الموسيقى الكوردية والفلامينغو والجاز، وخلال تلك الفترة أحيينا حفلات موسيقية في كل مدن أوروبا تقريباً إلى جانب أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وسجلنا موسيقى تصويرية للأفلام الوثائقية والمسرحيات، وفي عام 2007 نلت جائزةً لأفضل ثلاثة أعمال على مستوى إسبانيا في الموسيقى التصويرية".
في رصيد ميرزو حتى الآن خمسة ألبومات وكان آخرها ألبوم مشترك مع فنانين من إسبانيا والباسك وأوروغواي قبل عام من الآن، له فيها اغنيتان، ويشير إلى أن الألبوم الأخير "يصنف ضمن أفضل 20 ألبوماً في أوروبا حالياً".
العودة إلى الوطن.. دوافع فنية وإنسانية
رغم أن الحرب أجبرت الكثير من الأشخاص على مغادرة أرض الآباء للأجداد سالكين طريق الموت للنجاة وهم يحلمون بحياة أفضل في أوروبا، كانت مشاهد الدمار في الجانب الآخر تحفز ميرزو الفنان على العودة لدعم أبناء جلدته بسلاحه الناعم ألا وهو الموسيقى.
يقول غني ميرزو في معرض حديثه لرووداو: "العودة فنية وإنسانية بالدرجة الأساس، فبعد دخول داعش لمناطقنا والحرب التي دمرت كل شيء وحتى الإنسان نفسه، وما تركه من جرح قررت العودة لأكون قريباً من الناس وخاصة الأطفال الذين يدفعون ثمن الحروب عادة، لأن من واجبنا أن نكون إلى جانبهم ونحاول منحهم الأمل وإدخال السعادة إلى قلوبهم عن طريق الفن، فالموسيقى قادرة على بناء إنسان سليم".
ويشدد على أنه "من الناحية الفنية أحاول مساعدة الفنانين وأكون قريباً منهم ومد يد العون لهم في ما يتعلق بإقامة الحفلات الفنية وتشجيعهم على الاستمرار وإعطائهم الأمل".
سنجار.. مراكز لتعليم الأطفال الموسيقى
يرى غني ميرزو أن الموسيقى ليست غذاءً للروح فقط بل دواء للجروح، ومن هذا المنطلق قرر إطلاق مشروع لتعليم الأطفال الكورد الموسيقى كوسيلة لإعادة تأهيلهم مما تعرضوا له على يد الحرب التي أتت على الأخضر واليابس.
ويقول: "قررنا القيام بشيء لسنجار التي عانى فيها الكورد الإزيديون كثيراً، سعياً لإعادة الأمل إليهم وللإنسان الكوردي عموماً، لذا قمنا بفتح مركز فني للتأهيل الموسيقي والثقافي، ونحن نعمل على هذا المشروع منذ نحو 4 اشهر وخلال أسبوعين سنفتتح مركز (شنكال الفني والموسيقي) في خانة سور وسنوني، من قبل منظمة (ميرزو ميوزيك) وهي منظمة غير حكومية".
وتابع: "نحن الآن لا نتلق أي مساعدة ولكننا نحاول إيجاد الدعم سواء من حكومة كوردستان أو العراق لمساندة الإنسان الإزيدي من أجل العودة إلى ما قبل الحرب والحفاظ على الثقافة الإزيدية بشكل عام".
ويوضح: "نعمل على نقل الأطفال من مخيم جبل سنجار إلى المركز وفي المقابل إرسال مدرسين إلى المخيم لتعليم الأطفال الموسيقى. الأرضية خصبة للقيام بذلك، لكن هنالك صعوبات تتعلق بالنقل ومن هنا ندعو لتقديم التسهيلات اللازمة لنا".
مفارقة التطور.. مآخذ على "تراجع المستوى الفني"
يبدي ميرزو عدم رضاه على حال الموسيقى الكوردية اليوم مقارنة بثمانينات وتسعينات القرن الماضي، رغم الازدهار المتحقق في المجالات الأخرى، كما يدعو لتضافر الجهود من أجل النهوض بالثقافة في كوردستان.
ويقول: "عندما عدت نهاية عام 2012 قمنا بتنظيم مهرجان عالمي عام 2013 بعنوان (مورغن لاند فيستيفال) في أربيل بحضور 60 إلى 70 فناناً من عدة دول عربية وأجنبية وأجزاء كوردستان الأربعة وقد كان فريداً من نوعه، ثم انتقل إلى السليمانية بعد ذلك".
ويلفت إلى أنه "كانت الموسيقى الكوردية في إقليم كوردستان متطورة في القرن الماضي أكثر بفضل وجود عمالقة الفن، لكن المستوى انحدر الآن وهذا يتعارض مع التطور الذي يشهده إقليم كوردستان وتحقيقه قفزات نوعية على مختلف الصعد، حيث أن هنالك تراجعاً من الناحية الثقافية مرده عدة أسباب ومنها الظروف العامة وسوء تنظيم الفعاليات الفنية، ففي أوروبا يعمل الشخص 5 أيام في الأسبوع ويستغل يومي عطلة نهاية الأسبوع لحضور أعمال السينما والمسرح والموسيقى من أجل تغذية الجانب الروحي وهذا غير موجود في كوردستان، لكننا مستعدون للتعاون مع السلطات المختصة من أجل إقامة الحفلات الموسيقية سواء في كوردستان وحتى على المستوى العالمي".
وبالعودة للمقارنة بين كوردستان وأوروبا موسيقياً، يقول: "في أوروبا يتم الترويج للثقافة السياحية بإقامة المهرجانات الموسيقية المشتركة بين فنانين محليين وأجانب بغرض جذب السياح، ولا بد من دعوة الأسماء الفنية القادرة على تحقيق ذلك، إلى جانب استغلال المراكز الأثرية مثل قلعة أربيل لتعريف السياح الأجانب بثقافتنا".
ولعل هذه الدعوة، تعيد إلى الأذهان الأمسية الموسيقية التي نظمتها شبكة رووداو الإعلامية في قلعة أربيل، في حزيران الماضي، وأحياها العازف العراقي الشهير، نصير شمة، ونخبة من الموسيقيين بعنوان "مدن النرجس".
ثورة ثقافية في روجآفا.. ستثمر ولو بعد حين
لم تقتصر مبادرات غني ميرزو الفنية على إقليم كوردستان، فهو يعمل على دعم الموسيقيين والهواة في كوردستان سوريا أيضاً، ويرى أن "روجآفا" تشهد ثورة ثقافية ستؤتي أُكلها بعد سنوات من الآن.
ومضى بالقول: "في كوردستان سوريا هنالك تعطش ثقافي دائم في كل بلدات روجآفا وهذا مهم جداً، ورغم أن مساحة الحرية ضئيلة لكن هنالك العشرات من المراكز الثقافية لتعليم الفنون الكوردية والرقص".
وذكر أن "هذه ثورةٌ ثقافية، وأنا واثقٌ من قطف ثمارها بعد سنوات قليلة، حيث تعتبر كوردستان سوريا مركزاً متميزاً من ناحية الشعر والأدب على مستوى كل أجزاء كوردستان".
ومن خلال العمل مع "موسيقيين بلا حدود"، دشن غني ميرزو مشروعاً لتزويد روجآفا بآلات موسيقية مستعملة للتعويض عن التي قام المسلحون بتدميرها.
وخلال مشاركته في فيلم "هارموني" الذي أنتجته شبكة رووداو الإعلامية، يقول ميرزو: "الثقافة تمر بفترة حرجة. لجأ كثير من الفنانين إلى مخيمات مثل دوميز وغيرها في كوردستان العراق، تركيا وأوروبا. هكذا أصبحت روجافا خاليةً من الفنانين. لقد بات الوضع مأساوياً".
وبعد جمعها على مدى ستة أشهر من المراكز المدنية والمعاهد الموسيقية في إقليم باسك، تم شحن الآلات إلى إقليم كوردستان العراق ثم نقلت عبر الحدود إلى روجآفا، وتم التبرع بالكثير منها إلى معهد موسيقي في القامشلي أسسه عازف الكمان الأرمني المسيحي، هاروت ك مدار جي يان- الذي اضطر للفرار من مدينته، الرقة، عندما هاجمها داعش.
ورغم أن إعادة الإعمار ستستغرق فترة من الزمن. لكن ميرزو متفائل بإمكانية إنقاذ التراث الموسيقي للمنطقة من بين الأنقاض، بالقول: "عندما تسمع ألحانهم وكلماتهم تصدح بين الخرائب، تجد أن أشعارهم تعلو على صخب الحرب، إنهم يُسكتون الضوضاء بالموسيقى".
الموسيقى.. جسر لتحقيق التقارب
يؤكد ميرزو الحاجة لاتخاذ الموسيقى والفن وسيلةً لتحقيق التقارب بين إقليم كوردستان وكوردستان سوريا.
ويقول بنبرة متفائلة: "آمل بل أحلم بإقامة مهرجان للتواصل بين كوردستان سوريا وإقليم كوردستان وتسميته (باشور في روجآفا وروجآفا في باشور) لتحقيق التقارب الكوردي ما سينعكس إيجاباً على التقارب السياسي وعملياً لا يوجد أي مانع من إنجاز ذلك".
وأردف: "أرجو أن تهتم وزارة الثقافة الجديدة بإقامة المهرجانات الثقافية ودعم الفنانين في إقليم كوردستان والمهجر من أجل النهوض من فترة الركود الفني التي تعصف بإقليم كوردستان الآن".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً