كوردي في نوفوديفيتشي

14-05-2020
رووداو
الكلمات الدالة ليلى قاسم
A+ A-

رووداو - أربيل

نوفوديفيتشي مقبرة تاريخية معروفة في روسيا، تقع في مركز العاصمة موسكو، ويتم دفن الموتى فيها منذ القرن السادس عشر للميلاد، لكن تم في العام 1904 تحويلها إلى مقبرة خاصة بالشخصيات البارزة. فباتت الدار الأبدية لكثير من الشخصيات البارزة على مستوى العالم مثل خروتشيف، يلتسين، تشيخوف، وناظم حكمت.

إلى جانب هؤلاء دفن كوردي يتعرف الكثيرون على هويته القومية من خلال لاحقة (كرماشاني) الملحقة باسمه. هو رجل قدم الكثير لإيران وللغة الفارسية، وبعيداً عن موطنه، كان له دور في تشكيل أمة لشعب غير شعبه وبناء دولة لهم. كان من أوائل الشخصيات العالمية التي وصلت إلى درجة وزير خارج بلدها، لكنه لم يترك لشعبه غير شهرة تقدمية.

undefined

هذا الشخص هو (أبو القاسم إلهامي) المولود سنة 1887 في كرمانشاه. كان أبوه فقيراً مادياً لكنه كان يمتلك ذخيرة شعرية كبيرة ساهمت في إرشاد ابنه إلى طريق الشاعرية، وقد سمى ابنه أبا القاسم حباً بالشاعر الإيراني المعروف (الفردوسي)، دخل أبو القاسم عالم الشعر الفارسي، وفي السنوات الأولى من حياته الأدبية سلك سبيل والده في نظم الشعر الديني والعرفاني، لينضم بعد ذلك إلى التيار اليساري والعالم الشيوعي.

undefined

أبو الشعر الفارسي الحديث

نشر أبو القاسم إلهامي قصائده الأولى باسم (ميرزا أحمد إلهامي) ثم اتخذ لنفسه الاسم الشعري (لالو) الذي يعني الخال باللهجة الكلهرية، وفي الأخير استقر على (أبو القاسم لاهوتي). ليس معروفاً متى ولماذا غير لقبه من إلهامي إلى لاهوتي، لكن ليس مستبعداً أن يكون هذا الاسم مرتبطاً بتقسيم العالم من وجهة النظر العرفانية والفلسفية الإسلامية، حيث يتم تقسيم العالم إلى أربع طبقات هي: الناسوت والملكوت والجبروت واللاهوت. الطبقات الأولى متعلقة بهذا العالم والأخيرة بعالم الخالق. سلك في شبابه مسلك الشعراء الكلاسيك ونظم الشعر العرفاني ونشره في المطبوعات الإيرانية في ذلك العصر، وعن أشعاره في فترة شبابه يقول في كتاب مذكراته إنه كان حينها ساذجاً جداً وكانت نتاجاتها كلها تقليداً سيئاً لكبار الأساتذة. 

انتقل لاهوتي في شبابه من كرمانشاه إلى طهران للعمل أو لمآرب شخصية، وجاء انتقاله إلى طهران في فترة كانت تجري فيها محاولات لتحجيم سلطات الملوك القاجاريين، وتظهر آثار تلك الأجواء بجلاء على أشعار لاهوتي التالية.

ثم شهدت أشعاره تغييرات كبيرة من حيث المضمون ومن حيث الأسلوب. كان لاهوتي من السباقين إلى الخروج عن النمط الكلاسيكي في الشعر الفارسي وألف قصائده بأسلوب شعري حديث. لذا فإن هناك من يعدون لاهوتي أب الشعر الفارسي الحديث، بدلاً عن (نيما يوشيج). كما أنه وفي فترة (المشروطة) اتخذ مع ميرزاد عشقي وعارف قزويني وفروخ يزدي، من الشعر وسيلة لمعارضة تمادي السلطة الملكية القاجارية، مستخدمين في ذلك أسلوباً كوميدياً ساخراً.

undefined

شيوعياً بعد حادث قتل

انضم لاهوتي في طهران للعمل في الجندرمة، فغيرت مهنته هذه مسار حياته وطريقة تفكيره. كتب في مذكراته أنه وبتشجيع من أقاربه في طهران انضم سنة 1904 إلى الجندرمة. ثم وبعد مرور ثماني سنوات منح رتبة سلطانية وأصبح مسؤولاً عن مراكز الجندرمة على الطريق بين قم وكاشان. لكنه اتهم بأخذ الأتاوات من سكان المدينتين، ما دفعه إلى قتل أحد العاملين تحت إمرته، فرفع رجال الدين في قم شكوى ضده في طهران الأمر الذي أدى إلى اعتقاله وسوقه إلى سجن الجندرمة في طهران ليهرب منه ويعود إلى كرمانشاه. بقي مختفياً في كرمانشاه حتى سمع أخبار الحكم عليه غياباً بالإعدام.

يقول إن هذا الحادث كان له تأثير كبير على نظرته إلى الدين والزعامات الدينية، ويقول إنه هم بالتخلي عن لقب لاهوتي وإزالته، لكن غروره لم يسمح بذلك، إلا أنه عاهد نفسه بمعاداة الدين ورجال الدين.

بعد صدور ذلك القرار، انتقل إلى خانقين، ثم إلى الموصل فحلب ليصل في الأخير إلى إسطنبول، وهناك حسب قوله: "قبّل مقر العدالة الاشتراكية وآمن بالشيوعية".

أدخل لاهوتي هذا التحول الفكري في شعره أيضاً، ولقب في الأدبيات الفارسية بشاعر البروليتاريا. حيث كان أول من يستخدم المفاهيم والمصطلحات الطبقية في الشعر الفارسي، وكان أول من ترجم قصيدة نشيد "إنترناسيونال" العالمي العمالي إلى اللغة الفارسية. ثم تبعه الشاعر والكاتب الإيراني المعروف، أحمد شاملو، بترجمة النشيد إلى اللغة الفارسية، لكن ترجمة وشهرة شاملو لم يتمكنا من مزاحمة ترجمة لاهوتي على مكانتها.

بعد أن مكث سنوات في إسطنبول، أصدرت الحكومة الإيرانية بوساطة من شخص متنفذ في السلطة القاجارية والبهلوية يدعى (مخبر السلطنة) عفواً عن لاهوتي ليعود إلى وطنه. لدى عودته، مكث فترة في كرمانشاه، وهناك وتحت تأثير التغيير الذي طرأ عليه فكرياً، أصدر لاهوتي في 1917 أولى جريدة كرمانشاهية باسم (بيستون)، كما شكل حزب (فرقة العمال) في كرمانشاه، إلا أنه عاد إلى مهنته في الجندرمة وبنفس رتبته السابقة وكلف بالعمل في تبريز.

وفي تلك الفترة انتمى إلى الحزب الشيوعي الإيراني الذي تأسس في 1920 على يد (حيدر عمو أوغلي) في مدينة أنزلي الساحلية في شمال إيران.

نائباً لماكسيم غورغي في موسكو

بعد انقلاب 1921 في إيران وإنهاء السلطة القاجارية في البلد، حاولت الحكومة الإيرانية التي لم تكن سلطتها تتجاوز طهران بعد الحرب العالمية الأولى، بسط سلطتها على سائر مناطق البلاد. فكان أن أنهت ثورة خراسان وشلّت حركة (جنكل) في شمال إيران، إلا أنها فشلت في مواجهة الحركة الكوردية بقيادة (إسماعيل آغا سمكو) في شرق كوردستان. في تلك الحرب، قتل أخ للاهوتي كان من الجندرمة واسمه (أبو الحسن) لكن انتصار الكورد على قوات القازاق والجندرمة الإيرانية، شجعت عدداً من الضباط على التمرد على سلطة طهران.

كان أبو القاسم لاهوتي يحمل رتبة رائد فتولى قيادتهم واستولوا على تبريز في 30 كانون الثاني 1922، وقد عرفت تلك الثورة في التاريخ السياسي الإيراني بثورة (لاهوتي خان). بعد السيطرة على تبريز، أراد الضباط الثائرون الزحف باتجاه طهران، لكن الخطة فشلت نتيجة هجوم قوة آذرية أردبيلية على تبريز بهدف نهبها. فهاجم الجيش الإيراني تبريز وفرّ لاهوتي وعدد آخر من رفاقه الضباط باتجاه الاتحاد السوفييتي.


عبروا نهر (آراس) في يوم 14 شباط 1922، وهناك بدأت مرحلة جديدة في حياة لاهوتي. حيث انضم إلى الحزب الشيوعي السوفييتي وعمل فترة ضابطاً في المناطق الحدودية، ثم انتقل إلى موسكو حيث أصبح عضواً في مركز الكتاب السوفييت ونائباً لـ(ماكسيم غورغي).

أنقذ صدرالدين عيني من القتل

في 1925 استأذن الحزب الشيوعي السوفيتي للانتقال إلى طاجيكستان والإقامة فيها. كان الزعماء الطاجيك من أمثال صدرالدين عيني ومحمدين أوف وعبدالرحيم حاجي بايوف، قد تمكنوا حديثاً من إقناع موسكو بأن الطاجيك قومية متميزة عن الأتراك والأوزبك وكانوا يشرفون على الانتهاء من معركتهم في سبيل إقامة دولة طاجيكستان.

أخذ لاهوتي معه ماكنة طباعة هدية إلى طاجيكستان، قال عنها رئيس اتحاد كتاب طاجيكستان، نظام قاسم: "كانت ماكنة الطباعة أهم لطاجيكستان في تلك الأيام من جبل من ذهب".

بعد وصوله إلى مدينة (دوشنبة) بدأ لاهوتي مع عيني ورفاقه ببناء أمة ونشر وتثبيت مفاهيم ومصطلحات من قبيل الأمة الطاجيكية واللغة الطاجيكية والأدبيات الطاجيكية. بعد أربع سنوات أصبح كل شيء جاهزاً لاستقلال طاجيكستان، وتم الاعتراف في العام 1929 بحمهورية طاجيكستان الاشتراكية. بعد الاستقلال، نظم لاهوتي قصيدة النشيد الوطني الطاجيكي وعيّن رئيساً للأكاديميا العلمية ووزيراً للثقافة والفن في طاجيكستان. فكان التطور العلمي للفن والثقافة، وإرساء أسس المسرح والموسيقى، وتشجيع الكتاب واتساع دائرة الطباعة والنشر في طاجيكستان من ثمار تلك المرحلة من حياة وكفاح لاهوتي.

لم يكن استقرار دولة طاجيكستان كما يريد الذين كان لهم دور كبير في قيامها. ففي العام 1937، راح صدرالدين عيني ضحية لمؤامرات دعاة التوسعية التركية وأصبح هدفاً لهجمات وانتقادات أصحاب السلطة والأجهزة الأمنية الطاجيكية والروسية، ولولا ذهاب أبو القاسم لاهوتي إلى الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين ومطالبته إياه بإنقاذ حياة عيني، لكان قد راح ضحية حملات الإعدام التي عرفت بعهد الإرهاب الستاليني.

اسم عيني مدرج حالياً ضمن أسماء الأبطال الوطنيين الطاجيك الخمسة، ولو أنه أعدم لربما كان اسمه الآن في قائمة الخونة. دفعت الأوضاع السياسية والأمنية في طاجيكستان لاهوتي للعودة إلى موسكو، ولم يقل عن ذلك غير أن عودته لم تكن برغبة منه.
undefined

العثور على ثلاث قصائد له بالكوردية

كان العقد الأخير من عمر لاهوتي، والذي قضاه في موسكو، فترة استرخاء وجمع لبعض نتاجاته وكتابة مذكراته بعنوان "حياتي". لم يطرأ أي تغيير حتى في تلك الفترة على أفكار لاهوتي المتعلقة بوطنه وأمته. ففي تلك الفترة تم رفع علم جمهورية كوردستان الديمقراطية في مهاباد، وكان حينها يكتب الأشعار عن إيران في موسكو.

كتب واحدة من قصائده بالتزامن مع قيام جمهورية كوردستان وتحقيق حقوق جزء من مواطنيه، باللغة الفارسية وسماها "وطني". كانت أفكاره تلك بادية على أعماله منذ البداية، وتم حتى الآن التحقق من ثلاث قصائد كتبها لاهوتي باللغة الكوردية، نشرت واحدة منها في مجلة (زين) التي كانت تصدر في إسطنبول في 1919، دعا فيها الكورد إلى حب وطنهم والسعي لتحقيق حقوقهم، حيث يقول: "أمة الكورد! قومي فهذا السبات مشين، وقد قال النبي حب الوطن من الإيمان"، لكنه في نفس القصيدة ينصح الكورد في شرق كوردستان بأن لا يسعوا للانفصال عن إيران، ويقول: "إيران وطن الكورد والكورد شعب إيران، الخصام مع أرض الوطن يستجلب الذل والعار". كما حث الكورد الخاضعين للسلطة العثمانية إلى ضم أراضيهم إلى إيران: "أيها الكرمانج، التحقوا بإيران، فاليد حين تلحق بوطنها تكون جميلة".

ورغم أن هذه كانت نظرة لاهوتي إلى حقوق شعبه، فإن فكره التقدمي وكونه شخصية كوردية ناجحة جعلته محل تقدير المثقفين والباحثين الكورد. كان لاهوتي يتمتع بفكر تقدمي إنسانياً. كان يحث الناس على التطور والتفكير العصري، وله قصائد عن حقوق المرأة حث فيها النساء على مقارعة هضم حقوقهن.

رغم كل الآمال التي كان يحملها، توفي لاهوتي في نوروز 1957 في مستشفى بموسكو عن عمر يناهز 70 سنة، ودفن في مقبرة نوفوديفيتشي. هذه المقبرة تحولت الآن إلى مرفق سياحي يتوافد عليه الناس لزيارة قبور الشخصيات المعروفة.

أفنى لاهوتي عمره وقدراته في خدمة إيران، لكن هذا البلد لم يكافئه بشيء غير الإقرار بأنه شاعر فارسي وبنشر بعض نتاجاته.

موقر في طاجيكستان ومهمل في إيران

الطاجيك كانوا أكثر وفاء للاهوتي من الإيرانيين. حيث منحوه مكاناً مميزاً على جدارية الكتاب الطاجيك، وأطلقوا اسمه على مبنى المسرح وأكاديميا الدراما الطاجيكية، ونصبوا له تمثالاً أمام أقدم دار للمسرح في مدينة دوشنبة. كما تقام سنوياً ندوات علمية تتناول نتاجاته، وتم تحويل الدار التي كان يقطنها إلى متحف مع الاحتفاظ بمقتنياته الشخصية، وأطلقت نقابة صحفيي طاجيكستان اسم أبو القاسم لاهوتي على الجائزة السنوية التي تمنحها لأفضل الصحفيين/ المراسلين، ويجري إحياء ذكرى ميلاده بندوات وتجمعات.

وبعد مرور 63 سنة على وفاته لازال أبناء طاجيكستان يطلقون لقب "أستاذ" على لاهوتي، تقديراً منهم لمبدع الشعر الطاجيكي المعاصر ومؤسس المسرح والأوبرا في بلادهم.

لم ينصب اهتمام شاعرية لاهوتي على السياسة والثورة، بل كان يتمتع بلغة فصيحة في التعبير الشعري الغزلي، مثل ما هو في قصيدة "الحبيبة ذات الخصر النحيل" التي ألفها عن قصة حب بين فتيان وفتيات منطقة (مست تشاي) الطاجيكية ومازالت رمزاً للعشق يتخذ منه كبار المغنين الطاجيك والأفغان مادة لأغانيهم.

 

undefined

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب